لا تندهشوا - ونحن نفتح اليوم بابًا حسبناه مؤصدًا بمفاتيح الرقابة - وظنّنا لسنوات طويلة أنَّنا في مأمن من شروره وسمومه القاتلة. باب يتوارى خلفه باعةُ الموت، وتجَّارُ الأغنام النافقة ممَّن يتخيَّرون ساعات الفجر الأولى موعدًا ليبرموا خلالها الصفقات السوداء، ويقدموا للمشترين - من الوافدين خاصَّةً- الأغنام الميتِّة بسعرٍ بخسٍ، لتأخذ على أيدي هؤلاء طريقها للمطاعم، ومن ثمَّ إلى بطون الضحايا -صغارًا وكبارًا-.
حكاية كشف محرر «المدينة» اللثام عن تفاصيلها ليدق بقلمه على السطر، ناقوس الخطر المخيف، ويرسم ملامح الطريق الموصل لسرقة العافية، وليشير بأصابعه الخمس لبيت الداء الذي كثيرًا ما نقل أصحاء من دنيا الانطلاق إلى قبر النهاية.. مشاهد حيَّة تنقَّل خلالها محررُ «المدينة» من شرق جدة، إلى المسلخ المركزيِّ؛ لينتهي به المطاف داخل حوش الخمرة مسرح العبث، وأشهر محطات بيع الميتة، والمريضة، ومكسورة الساق. ومع فداحة المشاهد التي سجَّلتها الكاميرا داخل «الحوش يبقى الغريب أنَّ البلدية لم تزر هذا المكان، ولم تفحص أغنامه طيلة ثلاثة عشر عامًا -وفقًا لأحد الباعة القدامى-.
الجولة على بشاعة فصولها، وغرابة نتائجها، لم تنتهِ داخل الحوش، بل تخطَّت أسواره إلى مطاعم الضمير الميِّت بجدَّة -كما يحلو لي تسميتها- والتي تتسابق لشراء الميتة، والمريضة؛ لتقدِّم لحومها على أطباقٍ فاخرةٍ، وهي تخرج لسانها للضحايا.
نعم هي رحلة الكشف عن «الفضيحة»، مسرحها سوق أبولبن والخمرة جنوب جدة ، وأبطالها سماسرة وافدون، وأصحاب مطاعم بلا ضمير، أمَّا ضحاياها بلا عددٍ يتسلل المرض إلى بطونهم ببطء، بل ويدفعون من أجل استدعاء الموت عزيز الأموال.. اقرأوا الحكاية التي بدأها محرر «المدينة»، وأماط عنها اللثام عامل بوفيه.
على دباب
على دبَّاب بدأتُ «جولتي» متقمِّصًا دور صاحب مطعم يبحث عن لحوم رخيصة السعر. لا بأس أن تكون لأغنام ميِّتة، أو مريضة. كنتُ حريصًا على طرق أبواب أحواش الأغنام البعيدة، التي يسيطر عليها في الأغلب عمالةوافدة ولأنَّ الكل يتهيَّب «الغترة والعقال» -بيعًا وشراءً- اصطحبتُ زميلي الوافد؛ لأقدِّم به قرص الاطمئنان لهؤلاء السماسرة، وليكون بمثابة الجسر الآمن لإتمام الصفقة.. انطلقنا سويًّا للحلقات العشوائيَّة شرق جدَّة، وعسفان، وتجوَّلنا داخلها، آملين أن نفوز بشراء «النافقة»، ولكنَّنا حقًّا لمْ نرَ في هذه الأماكن ما يثير الشكوك، ويستحق الانتباه؛ لننتقل بعدها إلى حظائر الحرازات ومريخ ، همستُ لأحد الموجودين، طالبًا منه أن يرشدني لمن يبيع لي لحومًا فاسدةً، وسألتُ بشكلٍ صريحٍ عن الأغنام الميِّتة، والمريضة! ولكنِّي وجدتُ الكلَّ يرفضُ، ويُجمِع على حرمانيَّة البيع. شعرتُ بخيبةِ رجاءٍ «مؤقتة»، وخشيتُ أن تنتهي مهمَّتي بلا فائدة، ولكن جاءني مَن يقدِّم لي «الهدية»، ويقول: إنَّهم يخافون منك، ولن يبيع أحدٌ لك. دع أحد الوافدين يشتري لك. فبين الوافدين في سوق الأغنام شفرة سوداء، لا يقرأها مثلك.
استثمار الوافد
استثمرتُ زميلي «عامل البوفيه» خيرَ استثمار، وجعلته «بطلاً» في قصَّة الكشف عن الفضيحة. توجَّهنا سويًّا إلى وادي قوس ؛ ليقدم زميلي للبائعين سيناريو مُحكمًا، يلامس المنطق والعقل قائلاً: نحنُ نعملُ بمطعمٍ لطبخِ اللحوم، ونحتاج إلى 70 رأس غنم، ومن بعد تحرّك بخطى جريئة هامسًا في أذن أحد الباعة: نريد أن تجلب لنا الميتة، والمريضة حتَّى لا ندفعَ أموالاً كثيرةً. وعلى الرغم من غرابة الطلب، وجرأة السؤال، إلاَّ أنَّ تسابقًا غريبًا ولافتًا من البائعين في الإجابة، إذ انبرى أحدهم مؤكِّدًا: أنا لديَّ الآن، وسأحضرها لكم، بينما حاول آخر إمهالنا للغد، ولتبدأ بعدها المساومات حول السعر، فمنهم مَن رفع سعر النافقة لحدٍّ مغالٍ فيه، ومنهم مَن وصل معنا في السعر لسقف مقبول، ومع أرجوحة المساومة، ودلال السماسرة جاءنا من الباعة مَن يقودنا إلى «الضَّالة المنشودة»، قائلاً: سأحضر لكم ما تريدون، شريطة أن تمنحوني 20 ريالاًعلى كل رأس أجلبه لكم.
خارطة طريق
تحرَّك السمسار -كبير السن- معنا بحميَّة وإصرار؛ حتَّى أنَّه كان يسبقنا خطوات، ويحدِّث الرعاة بجرأة عن مطلبنا، وعلى الرغم من فشل محاولته في وادي قوس، إلاَّ أنَّه لم يستسلم، وطلب من أحد أصدقائه دبابًا وتوجَّه معنا إلى «المسلخ المركزيِّ» التابع لأمانة جدَّة، وبدأ يسأل رفقاءه من ذات الجنسيَّة عن الغنم المريضة، أو التي على وشك الموت؛ حتَّى أرشده أحد الرعاة بالذهاب إلى «حوش الخمرة، وعلى الفور التفت إلينا السمسار قائلاً: لنذهب غدًا إلى حوش الخمرة، وسأحضر لكم ما تريدون.
حوش أبو لبن
في طريقنا للحوش، حاولنا استجلاب المعلومات من السمسار عن هذا المكان، فإذا به يؤكِّد أنَّه حوش واقع بالخمرة، جنوب جدَّة، تستقر به الأغنام القادمة من السودان وتتم داخله عمليات البيع والشراء ويسميه الناس هناك بحوش الحراج. سألناه: هل تأتي البلدية إلى هذا المكان؟ قال: أنا أعملُ في هذه المهنة منذ 13 عامًا، وأدخل الحوش كلَّ يومٍ لم أرَ البلديَّة تأتي وتفحص الأغنام التي تُباع..عاودنا السؤال: هل سنجد ضالَّتنا من الأغنام الميِّتة والمريضة في هذا المكان؟ فأجابني: نعم.. كلُّ شيء ستحصلون عليه، ولكن بنفس الاتفاق تعطونني 20 ريالاً على الرأس. أومأنا له بالموافقة وقلنا: هل تعاملت من قبل مع أحد المطاعم مثل تعاملك معنا؟ قال: نعم كنتُ أجلبُ الأغنام لمطاعم جنوب جدَّة، منها المريضة، ومنها مكسور الساق.. حديثنا مع السمسار كشف لنا كثيرًا من «الألغاز المعقَّدة» التي حيَّرتنا حتَّى تأهبنا لدخول «الحوش»، ونحن نرى الصورة بوضوح.
بوابتان بلا لوحات
وصلنا إلى الحراج، فإذا به حوش مسوَّر له بوابتان بدون لوحات. في داخله حراك مشتعل بيعًا وشراءً واعداد هائلة من الاعنام المستوردة بمختلف احجامها وسلالاتها . التفتنا للسمسار وقلنا «شوف شغلك وزي ما اتفقنا»، وعلى الفور انطلق وبدأ يتكلَّم مع الراعي الأول، ومن بعد الثاني؛ حتَّى جاءنا أحدهم قائلاً: سأجمع لكم الأغنام المريضة، والمكسورة من الحظائر، وأجلبها لكم، وما أن مرَّت ربع ساعة حتَّى جاءنا بـ30 رأسًا، وقال: أحسب عليكم الرأس بـ200 ريال، بدلاً من 350 ريالاً! هل فلوسك جاهزة؟ التفت لزميلي وقلنا سنجلب لك المبلغ غدًا، ولكن البائع رفض قائلاً: سأبيعها اليوم لأحد غيركم، إذا لم تشتروها الآن، فأجبناه: سنأتي غدًا ومعنا المبلغ كاملاً ونشتري. الجميل أن السمسار وقتما شعر بجدِّيتنا وقرب إتمام الصفقة قال: اتِّصلوا عليَّ اذا تمت البيعة وسأحملها بدباب، وآتيكم بها إلى المطعم بنفسي؟ لم نرفض لحظتها طلبه، فنحن نريد أن نخرج من هذا المكان فقط، فيكفينا ما اغتنمناه من معلومات، وعايناه من مشاهد كانت أقرب للصدمات «المفزعة».
الطرد من المحجر
لم أشبع بما فزتُ به من معلومات، بل توجَّهتُ في اليوم الثاني إلى المحجر الصحيِّ بالخمرة لأسال المسؤولين هل تتابعون الأغنام، التي تأتي من ميناء جدَّة إلى حوش أبو لبن؟ ولكن -للأسف- منعني حارس الأمن من الدخول، وحال بيني وبين سؤال الأطباء، فقلت له: أريد أن أسأل عن الأغنام المريضة، والميِّتة في حوش الحراج ، مؤكِّدًا له أنَّ هناك من يبيعونها ويربحون منها وهي مريضة او ميتة، فنهرني بالقول: «ما لنا شغل فيكم»، وطردني من المحجر.
مطاعم المندي
أكملتُ مشوارَ رحلتي «المهنيَّة» إلى مطعم شهير من مطاعم المندي، وعرضت على صاحبه بضاعتي وقلت: لديَّ أغنام سواكني بـ120 ريالاً للواحد، فاندهش لحديثي وقال: أجلبها لي، وأنا اشتري منك 15 رأسًا دفعة واحدة ليس هذا فقط، بل سارع بتسجيل رقم هاتفي، والتأكيد على تحويل «العربون» المتَّفق عليه. ومع فرحة صاحب المطعم بالصفقة نسي أن يسألني من أين أتيت بهذه الأغنام؟ هل هي صحيحة، أم مريضة، أم ميِّتة؟ انتقلتُ مرة أخرى إلى أحد مطاعم الكباب، لأسال صاحبه: بكم تشتري كيلو اللحم؟ فاجابني بـ27 ريالاً من حلقة الأغنام. قلت له أنا أجلب لك كميَّات اللحم «مغطاة ومكيَّسة» إلى مطعمك بـ15 ريالاً للكيلو، فإذا به يوافقني ويطلب شراء سبعة كيلوات الآن.. ومع الدهشة التي غلبتني من الصفقات الغريبة والسريعة، داهمني أحدُ الطبَّاخين المصريين عندما سألته عن الأغنام الميِّتة واللحوم الفاسدة، كيف تبيعونها؟ فإذا به ينقلني نقلة أخرى على بساط الاستغراب قائلاً: يا باشا «النار بتموِّت كل شيء»! كما أننا في بعض الأحيان نضيف حبوب البنادول إلى اللحوم حتى تصبح طريَّة.
الختام ليس مسكًا
خرجت بعد هذه المشاهد العبثيَّة لأتجوَّل بمركبتي داخل شوارع وأحياء جدَّة، وأرى بعيني المطاعم ذات اللوحات الزجاجيَّة، والطاولات الأنيقة، وأتوقَّف للحظات أمام مطاعم طبخ اللحوم؛ لأجدها وقد ازدحمت بالمواطنين عشَّاق شراء المندي، والحنيذ. والكباب كنتُ أتمنَّى أن أستوقف كلَّ هؤلاء وأحول بينهم وبين الشراء.. بل تمنيتُ أن أحملهم جميعًا ليروا ما رأيت من أعاجيب في حوش الخمرة».
محرر المدينة يكشف أسرار حظائر
تاريخ النشر: 23 أبريل 2017 03:17 KSA
عامل بوفيه «بطل» في قصة الكشف عن الفضيحة
A A