شيء ما لا يُقبل في ثقافتنا العربيَّة، يعود باستمرار كلَّما
ظهر شيءٌ يُغيِّر الداخل أو العقل. وكأنَّ القدرَ الذي أصابنا مُصرُّ على منعنا من تحقيق أيِّ خطوةٍ في سياق محاربة التخلُّف والاتِّكاء على الثقافيِّ، بوصفه الوسيلة المتبقية للوقوف في وجه ماكينة تتجدَّد وتبتلع في أعماقها كلَّ الجهود الحيَّة باسم الدِّين أحيانًا، كما تفهمه طبعًا، وفي أحيانٍ أخرى باسم المجتمع الذي أنشأته في دماغها؟ كل العلامات الثقافيَّة التي صنعت مجدَ العبقريَّةالعربيَّة في أعالي تألقها وتمايزها، تُرفض، أو تُنسب للآخر الذي يحاول تدمير ذاتنا، وكأنَّ هذه الذات فيها ما يُحطَّم بعد الخراب اللاعقلانيِّ الذي لحق بها، والانتفاء المنظَّم الذي صاحبها منذ أن بدأت هذه العقلانيَّة تتخلَّص من ثقل التكرار والتثبُّت. كلَّما برز عالم أو مُفكِّر مميَّز واستثنائيٌّ، بدأ البحث في رصيده الجينيِّ، هل هو حقيقةً مُحبٌّ لبلده، أهله، محيطه، دينه، وقبيلته وغيرها؟ وينسى سدنة الأخلاق الخالصة، أنَّ وجود هذا العالِم فقط، في زمنٍ محددٍ كـ»ابن رشد» مثلاً، شرفٌ للأمَّة القادرة على إنتاج ما يُسعد الإنسانيَّة، ويمنح أمامها سبلاً جديدةً للفِكر والحياة والنور. فهو بهذا المعنى ذخيرةٌ للبشريَّة، وليس قيمةً محليَّةً فقط. عقليَّةُ النَّفيِّ ورفض التمايزِ لا تقتصرُ فقط على الإنسان، ولكنَّها تمادت إلى مسِّ الكتب العربيَّة الكبيرة، التي تركت أثرًا إنسانيًّا كبيرًا، بل أصبح العالمُ العربيُّ والإسلاميُّ أيضًا، يُعرفانبهذِه النّصوص. من هذه الكتب حكايات ألف ليلة وليلة. هذا النصُّ أُبيدَ مرارًا بلا فائدةٍ. لو كان نصُّ ألف ليلة وليلة، أو الليالي إنسانًا ارتكب إثمًا خطيرًا في حقِّ شعبه وأمته، لما تعرَّض لِمَا تعرَّض له من منعٍ ومصادرةٍ وحرقٍ . لو كان بشرًا لسُجِنَ بنصفِ قرنٍ على الأقلِّ في الظلمة،ومُنع عنه النور نهائيًّا، وربما لكُسر الحكم تحت إلحاح ال تطرُّف الأعمى، ولحُكم عليه بالمؤبَّد قبل أن يدفعَ بالحكمِ إلى الإعدامِ شنقًا، أو تمزيقًا، وحتَّى حرقًا؛ لتصفيته من الشوائب، كما كانت تفعل محاكم التفتيش في القرون الوسطى. المشكلة أنَّه ليس إنسانًا، أي أنَّه غيرُ قابل للموت بالمعنى التقليديِّ، لكنَّه كتابٌ يعيش في أعماق النَّاس، موته يقتضي نهايةَ كلِّ مَن يسكنُ في أعماقهم. فما تعرَّض له نصُّ الليالي فاقَ ذلك كله. تخطَّى حتَّى فكرة الموت. فقد مُنع في البدايةِ من التَّداول؛ لأسبابٍ أخلاقيَّةٍ، تتخفَّى وراءها سلسلةٌ من الهواجسِ السياسيَّة. كلَّما فقد المجتمع العربي تسامحَهُ وحبَّهُ وتفهمَهُ للآخرين، بسبب التجفيف الدِّينيِّ والثقافيِّ المُسلَّط عليه، تمَّت المطالبة بحرق ألف ليلة وليلة، منذ القرن العاشر إلى اليوم، وحُوِّل إلى رمادٍ في العديد من المناسبات. المشكلة هي أنَّ هذا النصَّ، كلَّما أُحْرِق، خرجَ من رماده كطائر الفينيكس. فاستمرَّ في الحياة، مُحلِّقًا عاليًا ومثيرًا غضبَ سدنةالخوف على الأخلاق العامَّة. نُصاب بحالة من الذهول والإعجاب، عندما نعرفُ الجهدَ الذي بذله، والوقت الذي صرفه، الباحثُ العاشقُ للشرقِ، أنطوان غالان AntoineGalland ، في جمع مادة الليالي من أمكنة مختلفة،ومن رواة عديدين في بلاد الشام وغيرها، وإعادة ترتيبها وترجمتها إلى اللغة الفرنسيَّة في ١٧٠٤. هذا الرجل جعل من هذا العمل مبررًا لحياته. وندرك اليوم قدسيَّة وعظمة ما قام به. ومنذ ذلك الوقت ترجمت الليالي العشرات من المرَّات عبر العالم، وبأكثر من خمسين لغة عالميَّة، ومنها الترجمة الجديدة إلى الفرنسيَّة لجمال الدين بن الشيخ، وصديقه أندري ميكيل التي دخلت السلسلة الفرنسيَّة الراقية لابلياد (الثرية)
La Pléiade التي تجمع أجمل النصوص التي دخلت في الميراث الإنسانيِّ.
أكثر من ذلك كله، فقد اعتبر كبارُ الروائيين العالميين أنَّ (ألف ليلة وليلة) شكَّلت أرضيَّةً خفيَّةً لكتاباتهم. مارسيل بروست، أكَّد على ذلك كله في تصريحاته لتبرير عنصر التجديد في روايته الخالدة: في البحث عن الزمن الضائع. الروائي غابرييل غارسيا ماركيز يعتبر (ألف ليلة وليلة) كتابه المرجعي الدائم. خورخي لويس بورخس يرى في نص الليالي، الكتاب الرائع الذي ترك فيه أثرًا كبيرًا وغيَّر حياته. أكثر من ذلك كله، فقد حوَّل الموسيقي الروسي الكبير ريمسكي كورساكوف هذا الكتاب، في القرن التاسع عشر، إلى سيمفونيَّة خالدة، حملت اسم شهرزاد. كيف نرفض اليوم نصًّا عظيمًا وخالدًا هو من صميم الشرق الذي منحنا الحلمَ، ومساحةً خارقةً للتخييل؟!