مِن الكُتب التي أَخَذَت طَاقة مِن وَقتي، وجُزءًا مِن قِرَاءتي هَذا العَام، كِتَاب «الحيَاة السَّائِلَة»، للمُفكِّر البُولندي «زيجمونت باومان»، ومِن تَرجمة المَوهوب «حجَّاج أبوجبر»، وتَقديم أُستَاذة عِلم الاجتمَاع «هبة عزَّت»..!
«باومان»، هَذا المُفكِّر القَدير -الذي دَخَل فِي العَقد الثَّامِن مِن عُمره- انفَتَحَت شَهيّته، لَيس عَلَى شُرب السَّوَائِل، بَل عَلى مُلاحقة كُلّ مَا يَتَّصل بالسّيولَة؛ مِن المَبَادئ والأفكَار، والقِيَم والعَلَاقَات، فكَتَب كِتَاب «الحُبّ السَّائِل»، ثُمَّ استَهوَته السّيولَة، فكَتَب كِتَاب «الحيَاة السَّائِلَة»، ثُمَّ تَطوَّر الأَمر فكَتَب كِتَابه «الخَوف السَّائِل»، ولَم يَكتفِ بهَذا، فلَه أَيضًا كِتَاب «الحَدَاثَة السَّائِلَة»، وكِتَاب «الحرَاسَة السَّائِلَة»..!
الأُستَاذ «باومان» مُفكِّر حُرّ، ولَه الفَضل فِي اخترَاع مُصطَلَح «الحيَاة السَّائِلَة»، التي تُنَاقِض الحَيَاة الصَّلبَة، وكُلّ أَفكَاره حَول السّيولَة، تُؤكِّد أَنَّنا نَعيش فِي الزَّمن السَّائِل، الذي يَسعَى لاستهلَاك الأشيَاء، والأفكَار والعَواطِف، بحَيثُ يَكون كُلّ شَيء قَابلًا للبَيع والشِّرَاء، والتَّحوُّل والانتقَال..!
أَكثَر مِن ذَلك، يَرَى المُفكِّر «باومان»؛ أَنَّ الفَرديَّة وتَكثيفهَا عِند الإنسَان، هي التي عَزَّزت الحَيَاة السَّائِلَة، وجَعَلَت الفَرد لَا يَشعر بذَاتهِ؛ إلَّا مِن خِلال استخدَام ومُلاحقة؛ مَا تُنتجه شَركَات العَالَم الرَّأسماليَّة الكَبيرَة..!
إنَّ المرونَة والانتقَال والتَّغيير والتَّبدُّل؛ كُلّها قِيَم زَرعتْهَا مَبَادئ الحَيَاة السَّائِلَة، ومَا كَان يَتحوَّل فِي المَاضي، فِي عِقدين أَو ثَلاثَة عقُود، يَتحوَّل الآن فِي ثَلاثة أَعوَام، ومَا كَان يَتوَارثه الأجدَاد جِيلًا بَعد جِيل، كالجلابيَّة مَثلًا، أَتَى جِيل الحَيَاة السَّائِلَة والحَدَاثَة السَّائِلَة، ليَصرخ بأَعلَى صَوته قَائلًا: «لَن أَعيش فِي جِلبَاب أَبي»..!
حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!
بَقي أَنْ أَقول: لَستُ هُنَا بصَدد التَّبَاكي أَو التَّشكِّي، فأَنَا لَستُ مِن هَذا الفَريق، ولَستُ مِمَّن يُحاولون نَشر التَّشَاؤم، إنَّما أُريد أَنْ أَقول: يَا قَوم، إذَا أَردتُم أَنْ تَعيشوا بسَلام، فتَعلَّموا قَانون العَالَم، وقِرَاءة لُغته، وحِسَاب أَرقَامه، وكَمَا قَال فُقهَاؤنا الأَوائِل: «إنَّ الحُكم عَلى الشّيء فَرعٌ عَن تَصوّره»..!!