هناك قصص غريبة تسكن الذاكرة بقوَّة؛ نظرًا لحكمتها واستمرارها فينا. نستدعيها كلَّما فاجأنا بؤس البشر وأُصبنا بالخرس. كان لدينا حمارٌ طيِّبٌ وذكيٌّ. لونه رماديٌّ، وعلى صدره بقعةٌ بيضاءُ، منها جاء اسمه لبقع (صاحب البقع). يعرف وظيفته جيِّدًا، وحقه في الأكل والحماية. نضع على ظهره كلَّ الأحمال الثقيلة، ومنها قلال الماء الفخاريَّة والبلاستيكيَّة في وقتٍ لاحق، التي نجلبها عادةً من ساقية القرية، التي لا يتوقف سيلان مائها أبدًا، ليلاً ونهارًا. ساقية لها قصَّة طويلة. في يومٍ من الأيَّام، ونحنُ نسير نحو الساقية بهدوءٍ وسكينةٍ، توقَّف فجأةً على غير عادته. أنصتَ قليلاً، ثمَّ واصل سيره بدون أن أعرف سببَ توجسه وتوقفه، ثم مواصلة سيره. عادةً عندما نصل إلى الساقية، ونجد الأحمرة المحمَّلة قبلنا، ينتظر دوره بصبر حتَّى يخلو مكان ما فيحتله. في ذلك اليوم غيَّر من عادته. فتسلَّل بينهم كأنَّه ثعلبٌ. يدفع هذا، ويدهم ذاك، وأنَا مُتخفٍّ وراءَه حتَّى وصلنا إلى المقدِّمة، حيث سيلان ماء الساقية. ملأت الماء، ثم غادرناها بسرعة؛ لأنَّها كانت خالية من مريم التي يستوقفني وجودها عادةً، وهي تغسل القمح، أو الأفرشة، والألبسة بعد مدِّها على الأرض، أو داخل إناء كبير، هو في الأصل قاع لبرميلٍ كبيرٍ. ونحن في طريق العودة، لا أدري ما الدافع الذي قادني إلى تقديم شكوى للحمار، عن حرقتي لغياب مريم، التي لم أرَها منذ مدة؛ بسبب عمِّها الطاغية، الذي كثيرًا ما سجنها في البيت بدون سبب. عندما انتهيتُ من التشكِّي، توقَّف قليلاً، ثمَّ التفت نحوي، ونظر إليَّ بعينين واسعتين. وبدأ ينهق بأعلى صوته؛ لدرجة أن أصابني بالطرش. ظننتُ أنَّه كان يظهر لي تعاطفه معي، ولكنِّي بعدها عرفتُ السرَّ. رأيتُ (أتانًا) تخرج من أحد الأكواخ، وتتَّجه نحو الساقية. من حين لآخر تردُّ عليه بنهيقٍ ناعمٍ يُشبه الحشرجة. أردتُ أن أضربه لكي يُواصل سيره، ولكنِّي تراجعتُ. تركته يتأمَّل معشوقته، ويتابعها حتَّى غابت في المنحدر، واختلطت بحمير الساقية المتراصَّة أمام مدخل الساقية. ولم تلتفت أبدًا نحوه، على الرغم من لطفه ونعومته. هزَّ رأسه في الأخير. صوَّب نظره إلى الأمام، ثمَّ واصل، تسلَّق المرتفع بفرح، وبسرعة غريبة لم أعهدهما فيه من قبل. الحبُّ سيِّدُ الحياة كلِّها، ولا فرق بين إنسان وحيوان، إلاَّ في فيض الأحاسيس ونظامها وعقلنتها قليلاً. يكفي أنَّه عبَّر لها عن انشغاله بها، ولم يجبرها على شيء. تركها تمضي إلى سبيلها كأنَّه فهم لغتها، ورفض أن يرهقها. في نهيقها قرأتُ رفضًا ناعمًا له، وهو فهم اللغة ولم ينهق أبدًا. أعتقد أنَّه صمت بعدها إلى أن مات عشقًا.. أدرك بسرعة أنَّه حبٌّ من طرفٍ واحد. هذه الحادثة بقيت في قلبي زمنًا طويلاً، ولم أعرف لماذا، إلاَّ عندما كبرتُ ورأيتُ الكثير من شباب اليوم يعاكسون البنات في الشوارع بلؤم كبير، وشتائم تصل أحيانًا حد التعدِّي الصارخ، والكلام الماجن، وكأنَّ المرأة التي أمامهم حشرة، وليست كائنًا بشريًّا، يملك أن يكون لنفسه. علَّمني الحمارُ أنَّ كلَّ شيءٍ بالرِّضَا والحبِّ. وللنَّاسِ الحق كلّ الحق في الرفض. واستفحلت الحالة مع الفيسبوك، حيث لا عقوبة أمام الأمراض والأحقاد. الشتائم الرخيصة، والتهم الباطلة التي مصدرها عادةً الغيرة والحسد والبغضاء، تملأ المواقع بلا أدنى رادع. مَن ادَّعى أنَّ الحمارَ لا يفهم، فهو الغبيُّ؟ الحمارُ عاشقٌ بامتيازٍ، ويحترمُ أتانهُ، وصبورٌ، ولا يعتدي على غيره، لكنَّه عندما يركب رأسه يلبس جلدَ ثورٍ فيحرن، ولا يسمع إلاَّ لنفسه.