كثيرا ما نستسهل الكتابة، على الرغم من كونها حالة شديدة التعقيد لأنها كبيرة المسؤولية، بالخصوص عندما يتعلق الأمر بزمن غامض وملتبس كالذي نعيشه اليوم.. الكتابة بقدر متعتها، مخاطرها تجبرنا على الوقوف أمام أي حرف نكتبه أو جملة نضعها في سياق ما، لأنها في انتشارها، ستمس بشرا كثيرين.. لهذا كلما سمعت بردود الفعل أو قرأت بعضها، حول رواية ما، أو سيرة مبدع دفع الثمن غاليا بسبب نص، تذكرت مآل الشاعر والإعلامي الفرنسي، برازياك، الذي انتهى إلى مصير تراجيدي، الإعدام، وهو في عز عطائه، لأنه أخطأ التقييم وقال كلاما تحول إلى وحوش افترسته في النهاية. أية رواية، بغض النظر عن جمالياتها وقيمتها الفنية، هي في النهاية، صرخة اليائس داخل دوامة عالم لم يعد معنيًا بنا، لأننا لسنا معنيين بأنفسنا.. العالم يحترق من حولنا، ونحاول أن لا نرى شيئا.. نتمادى في الوهم ولا نرى الموت، الذي يدخل إلى بيوتنا من كل الفتحات والمنافذ، المظالم التي تعاني منها شعوبنا، التفقير الذهني والمادي، العوالم التي تموت وتنشأ في محيطنا، خيراتنا التي تذهب نحو أعدائنا، وتُسرق في العلن، بل نحن من يركض نحو سارقنا، الحروب التي تشتعل على حدودنا أو نشعلها بأيدينا، استيقاظ الأمراض الإثنية والعرقية والطائفية التي تنخر الجسد العربي، فنضطر إلى الاصطفاف مع هذا أو ذاك.. مستقبل الماء الغامض، الذي بدأ يجف والكثير من مدننا تستعد اليوم للموت البطيء، لأن تتحول إلى حطب يابس وسكانها إلى غبار. حتى حق التنفس سيصبح صعبا أو مستحيلا على العرب بدون دفع ثمن عن ذلك، ما داموا يملكون الخيرات الباطنية التي تسمح لهم بالاستمرار.. وننتظر من السماء أن تغير بقدرة قادر كل شيء، والغفوة في عالم وهمي سائر إلى مسالك النار، والورد والوديان لناعمة الروائيين عربا وأجانب، لا يكتبون لإعادة إنتاج اليأس، كما يمكن أن يبدو ظاهريا، لكنهم ينبهون إلى أن عالما يرتسم الآن في الأفق، سنكون فيه هذه المرة يهود هذا الزمن في تيهنا وضياعنا ويأسنا إن لم نتحرك قبل فوات الأوان، وندرك خطر ما يحيط بنا ويحدث من حولنا.. أن تكون مالكا لرصيد حضاري سابق، لا يكفي ولا يحمي من النهايات الفجائعية.. لن يمنعنا كعرب من التلاشي والنهايات القاسية.. لسنا أفضل من شعوب سبقتنا إلى الحضارة، وانتفت لتصبح مجرد تاريخ وبقايا معالم قليلة، المايا والآنكا والآزتك، التي بُنِيتْ على حضارات عريقة ومتينة منحت للبشرية الكثير من السعادة والفرح، الأولميك Olmèque التي تأسست في الجنوب الشرقي من المكسيك، قبل نحو 1200 سنة الميلاد، وهي جزء مما يسمى بالحضارات ما قبل كريستوف كولمبس، précolombiennes، مكتشف أمريكا، التي تطورت ونمت في أمريكا الوسطى، بأمريكا الجنوبية، قبل أن يأتي مكتشف أمريكا ليُشعلها ويُحوِّلها إلى رماد. لم يبقَ منها الشيء الكثير، بل نُسيت وكأنها لم تكن. حضارات محاها الغزاة الإسبان أو الفاتحون conquistadores كما كانوا يُسمّون أنفسهم، في القرن السادس عشر، باسم التاج الإسباني، في إطار العالم الجديد.. لم يبقَ اليوم من شعب الهنود الحمر أيضا الشيء الكثير إلا محتشدات يتجمعون فيها هنا وهناك، على طول غابات كاليفورنيا وغيرها.. انقرضت أو كادت هذه الشعوب، التي ملأت الدنيا، على مدار عشرات السنين والقرون.. ما الذي يمنع العرب من هذا المصير القاسي، إذا بقينا على هذه الحال من اليقين الوهمي بأننا في الطريق الموصل إلى التحضر والتطور في ظل هيمنة قوى هي من يصنع مسالكنا وتاريخنا ومصائرنا أيضا، في ظل الانهيارات المتتالية، التي وصلت إلى سقفها في السنوات الأخيرة دون أن نتحسّس الخطر القادم؟ أدرك أن الأمر يتعلق في النهاية بروايات عربية تبدو متشائمة، كتبها أصحابها لإشراكنا في انشغالات شديدة القسوة، وليست تحليلا اجتماعيا، لا يدعي الأحقية التاريخية إلا ضمن متخيل وسيناريو قيامي apocalyptique (القيامة) تبرره وقائع حاضرنا، الذي تخترقه الحرائق الصغيرة قبل أن تتعمم، في حدود ما يمكن أن نتخيله.. لكن من قال إن التخييل لا يسبق العلم؟ العالم الآتي توقعه المخيال الحي وجعلنا نراه قبل حدوثه، لهذا يجب أحيانا تصديق التخييل قبل فوات الأوان.