كُلُّنا نَرتَادُ المَجَالِسَ، ونَزورُ المَقَاهِيَ، ولَابدَّ أَنَّ لكُلٍّ مِنَّا تَجاربَهُ الخَاصَّةَ فِي هَذِهِ الجَلسَاتِ، أَو تِلكَ المَقَاهِي.. ولَعلَّ أَغرَبَ الأَصنَافِ التي يَشتَكِي مِنهَا النَّاسُ فِي مَجالسِهم، هُو ذَلكَ الشَّخْصُ الذِي «يَمسكُ المَايكروفونَ»، ويَستَأثِرُ بالحَديثِ، ولَا يُعطي الفُرصَةَ لغَيرِهِ، وكَأنَّهُ أَعلَمُ النَّاسِ وأَخبَرُهم بشُؤونِ الحيَاةِ..!
إنَّ المُجتَمعَ قَد يَتقبَّلُ هَذَا الصَّنفَ بشَرطَينِ، هُمَا: أَنْ يَكونَ لَدَى المُستَأثِرِ بالحَديثِ شَيءٌ ثَمينٌ يَقولُهُ للنَّاسِ، والشَّرطُ الثَّانِي، أَنْ يُحاولَ إعطَاءَ الفُرصَةِ لغَيرِهِ للحَديثِ، ويَرتَاحَ هُو لبَعض الوَقتِ..!
إنَّ للمَجَالِسِ آدَابَهَا، ويَجبُ أَنْ نَكونَ صُرحَاءَ فِي نَقدِ مَجَالسنَا، وهَذَا الأَمرُ لَيسَ بالجَديدِ، لأنَّنِي -بالمُصَادفَةِ- وأَنَا أَتَأمَّلُ صَفحَاتٍ مِن مُذكِّرَاتِ «نجيب محفوظ»، وَجدتُ أَنَّ شَيخَنَا الرِّوَائيَّ -صَاحبَ الرِّوَايَاتِ الكَثيرَةِ- يَضعُ إصبعَهُ عَلى نَفسِ الجُرحِ الذِي أَكتُبُ عَنْهُ الآنَ، حَيثُ يَقولُ فِي وَصفِ أَديبِنَا الكَبيرِ «توفيق الحكيم»: (كَانَ لتَوفيق الحَكيم عَيبٌ، أَعتَبرُه عَيبًا ظَريفًا، لابدَّ أَنْ نَقبَلَهُ. كُنَّا -نَحنُ أَبنَاء الجِيلِ القَديمِ مِن الأُدبَاءِ- مُعتَادِينَ فِي أَحَاديثِنَا الخَاصَّةِ، أَنْ نُحيلَ أُمورَنَا الشَّخصيَّةَ إلَى حَالةٍ عَامَّةٍ، فتَتَّسعَ المُنَاقشةُ وتَمتَدَّ، وكَان «الحكيم» يَفعَلُ العَكسَ، إذْ يُحوِّل القَضَايَا العَامَّةَ إلَى قَضَايَا شَخصيَّةٍ، وقَد سَافرَ إلَى أُوروبَا مِرَارًا، وتَعرَّفَ عَلَى تَيَّاراتٍ أَدبيَّةٍ وفَنيَّةٍ حَديثَةٍ، وبَدلاً مِن أَنْ يُحدِّثَنَا عَن هَذِهِ التيَّارَاتِ، أَحَالَ المَوضوعَ إلَى حَديثٍ عَن حيَاتِهِ الخَاصَّةِ، ومَواقفَ لَهُ مَع أُسرَتِهِ، التي اعتَرَضَتْ عَلَى اشتغَالِهِ بالأَدَبِ، وهَكَذَا، وكَانَتْ جَلسَاتُنا كَثيرًا مَا تَستَغرقُ سِتَّ سَاعَاتٍ كَامِلَةً، يَستَولِي خِلَالَهَا «توفيق الحكيم» عَلَى هَذِهِ الجَلسَاتِ، ويَظلُّ يَتحدَّثُ ونَحنُ نَستَمعُ إليهِ، ولَكنَّنَا لَم نَكُنْ نَملُّ مِنْهُ)..!
حَسنًا.. مَاذَا بَقِي؟!
بَقِيَ القَولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، يَا مَن تَغْشُونَ المَجَالِسَ، تَأكَّدُوا أَنَّ لأَنفسِكُم عَليكُم حَقًّا، ولجُلسَائِكُم عَليكم حَقًّا، فاللهَ اللهَ لَا تَنسوا أَنْ تعطُوا المَايكروفونَ لمَن يَجلسُ مَعكُم، لأَنَّ لَهُ الحَقَّ فِي الحَديثِ مِثلكُم، وهَذِهِ مِن أَبسَطِ حقُوقِهِ..!!