على مستوى العلاقاتِ الخاصَّةِ، لا شيءَ يؤلم إنسانًا قدرَ ما يؤلمهُ أن يستأمنَ أخًا له، أو صديقًا، ثُمَّ يُفاجأ به مستعدًّا لطعنه في ظهره، وليس هناك فعلٌ بشريٌّ أقبحُ ولا أبشعُ من ارتداءِ الأقنعةِ المزيَّفةِ التي تُظهر الشخصَ مُحبًّا وهو كارهٌ، وصادقًا وهو كاذبٌ، وأمينًا وهو مخادعٌ. وعلى نفس المنوال، فإنَّ تعامل الدول مع بعضها البعض، على أساس التحالفاتِ والمواثيقِ والتضامناتِ، ناهيك عن الأخوَّة والتقارب والجوار، يستلزم الوفاء، واحترام الاتِّفاق، والتوقيع والمصافحة، لا المخادعة، واللعب على الحبلين.
ولنا في قطر مثالٌ للمؤلمِ والجارحِ والصادمِ في التَّعامل بصيغةِ التناقضات، فهي الشقيقةُ خليجيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا، ولكنَّها تفاجئنا بسياساتٍ وتصريحاتٍ استفزازيَّةٍ وكأنَّ لا رابطَ يجمعنا. تحضر مؤتمراتٍ خليجيَّةً وعربيَّةً وإسلاميَّةً، ثمَّ تخرج بتصريحاتٍ تناقض ما حضرته، ووافقت عليه. توقِّع قطر العهودَ بجديَّةٍ، ثمَّ تنقضها بندًا بندًا في منتهى الاستخفافِ بمعنى وقيمة العهود، وتجتمع بالحكام الخليجيين والعرب، وتتوافق على الخطوطِ العريضة، والتفاصيل الصغيرة، وتمدُّ يدَها في انسجامٍ تامٍّ مع المواقف الموحَّدة، ثمَّ تخرج علينا بتحركاتٍ وتصرفاتٍ تضرب بكلِّ ما تمَّ الاتفاقُ عليه عرضَ الحائط. فمع أيِّ قطر نتحاور؟ تلك التي تبتسمُ مطمئنةً، أم تلك التي تعبسُ حانقةً؟ تلك التي تُصرِّح بأنَّها مصطفةٌ مع العربِ؟ أم تلك الخارجة عن الصفِّ؟ أم تلك الشاقَّة للصفِّ؟.
تتعهَّد قطر بوقفِ التدخل في الشؤون الداخليَّة للدول الخليجيَّة والعربيَّة، ثمَّ تنقض عهدها، وتتعهَّد بوقف دعم جماعة «الإخوان»، واحتضانهم في الأراضي القطريَّة، ثمَّ تستمر فيما دأبت عليه، وتتعهَّد بإبعادِ جميع العناصر المعاديةِ لدول مجلس التعاون عن أراضيها، فترفض طردهم. تعدُ قطر بوقفِ التحريض الإعلاميِّ ضدَّ دول مجلس التعاون، ومصر، ثمَّ تنكثُ بوعدها، وتعدُ بعدمِ السماح لرموزٍ دينيَّةٍ في قطر باستخدام منابر المساجد للإساءةِ لدول الخليج، ولا تلتزم بالتنفيذِ، وكذلك تعدُ بعدم تجنيسِ أيِّ مواطنٍ من دول مجلس التعاون، فتغضُّ الطرفَ عمدًا، وتستمرئ مساندة كلِّ منشقٍ ومارقٍ.
المتأمِّل في سياسات قطر الخارجيَّة، يجد أنَّها تقومُ على كتلة من التناقضات الصارخة، فهي عضو في مجلس التعاون الخليجي، وبرغم ذلك سياستها لا تتماشي مع المجلس، وتضر بمصالح أعضائه، وهي عضو في الجامعةِ العربيَّةِ، لكنَّها توظِّف مالها وأسلحتها الإعلاميَّة من أجلِ بثِّ روحِ الانقسام والاشتباك، وهي تنقلب على الإجماعِ العربيِّ والفلسطينيِّ، الذي يرى أنَّ منظَّمةَ التحريرِ الفلسطينيَّة تمثِّل السلطةَ الرسميَّةَ، وتعلن أنَّ حركةَ حماس هي الممثِّلُ الشرعيُّ للشعبِ الفلسطينيِّ، ثمَّ تناقضُ مؤازرتها لحماس، وتقيم علاقات وديَّة مع إسرائيل. تشاركُ قطر في التَّحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، ثمَّ تساعد إيرانَ في دعمها للحوثيين ضد دول الخليج، وتزرع خلايا تجسسيَّة في مكتب الرئاسة اليمنيَّة، وحين تظنُّ أنَّها صديقةُ إيرانِ تجدها تدعم المتمرِّدين الذي يقاتلون حليف إيران بشار الأسد، وتفاخر بوجود قاعدة أمريكيَّة على أراضيها، رغم علاقاتها الجيدة مع إيران.
هل من المنطق أن توفِّق قطر واحدة بين كلِّ هذه المواقف المتضاربة؟ كيف يمكنها، بوجهٍ واحدٍ، أن تضع أمريكا، وإسرائيل، وإيران، وحزب الله، وحماس، والإخوان، والحشد الشعبي العراقي، وجبهة النصرة، والعرب، والخليج، في موضعٍ واحدٍ غير حياديٍّ؟.
تتقلب قطر وتتلَّون؛ لتجعل من نفسها وسيطًا فاعلاً بين كلِّ الأطراف، تضع في كلِّ يوم قناعًا، وتقوم بأدوارٍ خطيرةٍ سرًّا وعلنًا، وكأنَّها مكلَّفة بوظيفةِ إشعال المنطقة العربيَّة بفتنٍ لا تهدأ، وإشاعة الفوضى في أرجائها، وفي ظنِّها أنَّها ستكونُ المحرِّك الرئيس لكلِّ الأحداث، وبأنَّها ستلعبُ الدور الإقليمي الأهم، فتقع في شباك التناقض التي تزيل أقنعتها، وتكشف حقيقتها، وتزجُّ بها في زاوية ضيّقة.