هناك من يزعم أنّ القرآن الكريم حُفظ في الصدور، ولم يُحفظ في السطور، وهذا زعم جد خطير، لأنّه يُشكك في صحة القرآن الكريم، فالنبي صلى الله عليه وسلّم باشر بنفسه الإشراف على عملية كتابة القرآن فور نزوله، فقد كان له كتَّابٌ للوحي، كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته، فقد اتخذ جملة ممن يتقنون القراءة والكتابة كُتّابًا للوحي يكتبون القرآن عند نزوله بين يديه؛ أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبدالله بن الزبير أنّ النبي استكتب عبدالله الأرقم، واستكتب زيد بن ثابت، وقد كتب له عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم، وكان النبي يُحدِّد لهؤلاء الكُتّاب المكان الذي يضعون فيه الآيات الجديدة التي كتبوها في مجلس، ويراجع معهم ما كتبوه، أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف قوله لكتبة الوحي من أصحابه: «ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات، فيقول ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا».
لقد أثبت القرآن الكريم نفسه حقيقة وجود الترتيب المصحفي، وقد جاء ببرهان قوي في سورة «القيامة»: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ). وجمعه، يعني تنظيم الآيات والسور، وهذا التجميع، أو التنظيم للسور لا يمكن صنعه إلاَّ وفق ترتيب محدود، ألا وهو الترتيب الإلهي، وعلى ذلك يبدو واضحًا أنَّ الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي فقط، ولكنه أنزل معه تنظيمه وجمعه، وأسماء السور وترتيبها، والذي يزعم أنّ أسماء السور وترتيب الآيات ليس توقيفيًا من عند الله، فهو زعم باطل، يدحضه قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
وقد كان عليه الصلاة والسلام يراجع القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان كل سنة، فلما كانت السنة التي توفي فيها راجعه مرتين كما في الصحيحين عن فاطمة رضي الله عنها «أنّ جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وأنّه عارضه الآن (السنة التي توفي فيها) مرتين، وقال لها: إنّي لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري».
وقد شهد العرضة الأخيرة جمع كبير من الصحابة لا يمكن حصرهم، وهذه العرضة هي التي رتب عليها القرآن الكريم عند كتابته وجمعه في عهد أبي بكر وبعد ذلك في عهد عثمان.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ القرآن الكريم في العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام مرتبًا ذلك الترتيب الموحى به الذي نقرأ به القرآن الكريم. فسور القرآن وآياته رتِّبت بوحي إلهي، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاَّ بعدما قرأه على جبريل عليه السلام بذلك الترتيب في العرضة الأخيرة، وذلك موضع إجماع.
للحديث صلة.