لستُ أدري لماذا اهتزَّ قلبي بشدَّة، وأنا أقرأ جملةً وردت على لسان العم محمد الصواف «٩٠ عامًا»، وهو يتحدَّث لوكالة رويترز في ذكرى مرور ٥٠ عامًا على احتلال البلدة القديمة في القدس!
«إسرائيل جابت باصات عند باب العامود، وقالت اللي بدو يطلع مجانًا يطلع! كانوا بدهم يرحَّلوا الناس من القدس.. كل الناس اللي رحلوا ندموا»!
أوَّاه يا عم محمد! سمعتها من « عطوة»، ومن « سالمة»، ومن العم أحمد، ومن «صالحة».. سمعتها منهم في «خيمة العرب» التي كانت تنتصب كلَّ موسم قمح أمام منزل عمي عبدالمجيد.
كنا في ذلك الزمان مشبعين بحبِّ فلسطين، نغنِّي لها، ونكتبُ الأشعار؛ ونستلقي على أكوام قش القمح وننظر للقمر.. أمام الخيمة يمضي إيقاعٌ، بل تنافس فريد لمساعدة العرب القادمين من بعيد.. إيقاع لا يقلُّ صلابةً عن عزم بنَّائي السدود.. كنَّا نساعد وكلَّما انهمر العرقُ دعونا لروح كلِّ شهيد.
كان «العرب» -هكذا كنَّا نسمِّيهم- يأتون من جهة التل الكبير، لنقل قمحنا بإبلهم ذات السنام العالي، وانتظار عملية «الدراس» لعزل الحَبِّ -حَبّ القمح- عن القش، ومن ثمَّ تبدأ نوباتُ دقِّ «القصلة» لتصفية المحصول تمامًا، بحيث يكون مهيَّأً للخبز!
هكذا كان «العرب» يأتون، فينصبون خيمتهم، ويثبتونها بالأوتاد؛ فيما نسمع من بعيد أصوات نساء وأطفال؛ قبل أن نشمَّ في المساءِ رائحة الطهي!
رويدًا.. رويدًا يحلُّ الظلامُ على القرية «رملة الأنجب»، ويمتد حبلُ الكلام، ويشبُّ الخيال عن ذلك العالم المجهول داخل «خيمة العرب»!
في الصباح يمضي الشبابُ بالإبلِ لحملِ القمح، وينهمك الرجالُ في دقِّ «القصلة» بالعصا لا بترس.. وكأنَّهم يطحنون معها ذكريات الأمس.. ليتواصل الهمس!
صالحة تمسح دمعها، أو تخفيه بمنديلٍ.. والوقت أصيل.. فيما قلبُ الطفلِ يهتزُّ بشدَّةٍ.. يميل.. حين تسأله صالحة: هل يرضيك هذا القول يا قنديل؟
كان أحدُ الصبيةِ قد سمع أنَّ أجدادَ صالحة قد خانوا، وباعوا فلسطين.. هكذا كان يحلو الحديث للبعض!
تلعثمتُ قليلاً قبلَ أنْ أفيقَ على صوتِ «عطوة» من داخل الخيمة المرقَّعة!، لم نخنْ.. انهمر بعدها سيلُ الحكاوى المفزعة!
لم نخنْ! سمعتُها من سالمة.. تلك الطفلة النحيفة.. تمتمت بها تحت السقيفة.. علَّها تخرس كلَّ الروايات السخيفة!
كانت حكايات «عطوة» تعتملُ في رأسي ليكفهرَّ وجهي، وأنا أمضي لأتأمَّل أركانَ «خيمة العرب».
هنا حبٌّ.. وحبٌّ للقدس نابتٌ في القلب.. وهنا قمحٌ.. وزيتونٌ جاء من السفح.. يذيب البغضاءَ والتشاحنَ، ويمحو القبحَ.
وهنا حجر الصوان يدق.. لليالي الشوق.. للخير، وللإحسان، وللصدق.. للسهم يشق.. للعند يلين.. مع طول الطرق!
هنا قبرة، أو عصفور ترك السور.. سور الفرقة.. وجاء ليبني عشًّا من بلور.. ليبيض ويفرخ.. في النور.
أوَّاه يا خيمة العرب.. ستبقين معنى وصورة.. أركانك صدق الحروف.. وظلالك اللون الشفيف.. وبين ثناياكِ تتواصلُ أحلامُنا المؤجَّلة، وأمانينا الكبيرة.
كنتُ أنهي المقالَ على صوتِ فيروز تقول:
مريت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. قدام الدكاكين.. اللي بقيت من فلسطين.. حكينا الخبرية، وعطوني مزهرية.. قالوا لي هدي هدية م الناس الناطرين..
عم صرخ بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. خل الغنية تصير.. عواصف وهدير.. يا صوت ظلك طاير.. خبرهن عاللي صاير.. بلكي بيوعى الضمير.