يمثل التضاد بين قيمتي الخير والشر إحدى الثيمات الأساسية التي يحتفي بها فعل الكتابة الأدبية، ويتخذها مرتكزًا جوهريًا في منسجه، وبخاصة الكتابة السردية، وبصورة أكثر عمقًا في بعض الروايات، على اعتبار أن هاتين القيمتين تمثلان جوهر الحياة بما تنطوي تحتهما من تفاصيل تذهب بالواصف المميز إلى تصنيف الأفعال الإنسانية عمومًا إلى إحدهما؛ على اتساع ما يضمان تحتهما من مستحب الأفعال والتصرفات، ومنكراتها على حد سواء..
ولئن كانت جودة الرواية تكمن غالبًا في قدرتها على إذابة المسافة الفاصلة بين المتخيل والحقيقة، باقتراب أحداثها من الواقع المعيش، ومحاكتها لأحداث يكاد القارئ يجد لها نظيرًا في الحياة بدرجة من درجات التطابق، فإن هذا المسعى يحتاج قدرًا كبيرًا من الدربة والمكنة لدى الروائي المؤلف، في عرض شخصياته على وجه يقارب الحقيقة كأشد ما تكون المقاربة إلى غاية إيهام القارئ بأن الشخصيات الشاخصة في الرواية واقعية لا محالة، ومحسوسة ومدركة بالتناظر والقياس بين مثيلات لها، وعلى هذا تكتسب الرواية بعدها الجمالي، مع اكتمال شروطها الفنية الضرورية الأخرى المحدد لماهية الرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، طالما وعينا أن الرواية "سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث"، وأنها "تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذيه الأحداث".
بهذا المفهوم يمكننا الدخول إلى رواية "ساعة الصفر"، للروائي السعودي منصور بن محمّد الخريجي، حيث تلعب هذه الرواية على أوتار ثيمتي الخير والشر، متخذة من التناقض بين بطلي الرواية "طرماح" و"هشام" مرتكزًا لتعميق هذه المفاهيم ومفارقتها في السلوك، ومسرح أحداثها متوزع بشكل أساسي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال مجتمع الطلاب المبتعثين، وما يدور فيه من سلوكيات متباينة ومختلفة.. ولعل من يقرأ اللافتة المضيئة التي قدمها المؤلف في الغلاف الخلفي لروايته لأمكنه أن يرسم صورة ما لها؛ حيث يقول الخريجي: "ساعة الصفر تحكي في الأساس قصة شابين؛ طرماح وهشام، نشآ في الرياض في بيئة متشابهة، وتربط صداقة قوية بين عائلتيهما، طرماح ابن رجل غني وصاحب نفوذ وصلات قوية مع أصحاب الحل والربط؛ ولهذا لم يخطر على بال ابنه طرماح أنه بحاجة إلى الدراسة والتعليم ليشق طريقه في الحياة؛ بل اعتمد على ذكائه الفطري ونفوذ والده ليحقق طموحاته التي سعى إليها ولم يتردد في اقتراف أي عمل أيًا كان للوصول إليها؛ لكنه في النهاية يلقى جزاءه العادل، بينما هشام صديقه السوي يحقق في النهاية طموحاته المشروعة والتي سعى بجد ومثابرة لتحقيقها".
إن هذه الصورة الإجمالية قد تفي المتعجل الباحث عن الخاتمة و"الزبدة"، لكنها ستفوت عليه -إن رضي بها وقنع-، فرصة المتعة الكامنة في التفاصيل، والمستندة في سياق السرد الذي يتولاه "الراوي العليم" في الرواية، عبر أسلوب اغتسلت لغته من أوضار القاموس الاعتيادية وتمت إعادة شحنه بصورة منسجمة مع أحداث الرواية، مشكّلة صورة من صور حياتنا بما اشتملت عليها من قضايا جوهرية وأساسية تستحق النظر والتأمل والتعاطي معها بأشكال الإبداع المختلفة..
ففي سياق الرواية تتحدد صورة الشر في شخصية "طرماح"، الوالغ في السهر، المرفّه الحياة بما يمكله والده من جاه ونفوذ، الأمر الذي يجد فيه الابن غنّى عن التعليم فـ"هو الوحيد الذي شذّ عن إخوته ولم يقبل على الدراسة ولم يطق جو التعليم ويكره المدرسة ويكره زملاء الدراسة" و"طالما عاقبه والده على سلوكه هذا وطالما جادله لكن دون جدوى"، "يمتلك مقدرة كبيرة على الجدل والمناظرة ومشهود له في الأوقات التي كان يذهب فيها إلى المدرسة أنه كان يبز كل أقرانه في أي مناظرة يقيمها الأستاذ بين التلاميذ، ومن الغريب أن طرماح كان يكسب في معظم الأوقات حتى عندما يطلب منه الأستاذ أن يقلب المناظرة من النقيض إلى النقيض كان غالبًا يكسب عندما يطلب منه الأستاذ أن يتبنى ويدافع عمن كان يهاجمه في المناظرة!"
وهي صورة نقيضة لصديقه هشام الذي زامله في رحلة التعليم في أمريكا، حيث تكشف الأحداث المتلاحقة والمتواترة والمتحشدة بكثير من الإثارة عن رواية ماتعة لا ينفع معها التلخيص والمرور العابر، وإن كان لابد فقارؤها سيجد المؤلف قد برع في طرح قضاياه بشكل سلس ومتناغم ومتسق مع الأحداث، بخاصة وأن ما طرحه في ثنايا السرد والحوار حري بأن ينظر إليه بعمق وروية ومن ذلك قضية اختلالات السلوك التربوي داخل الأسرة، وقضية بيع الشهادات، حيث جاءت الإشارة إليها في قول الراوي: "هز طرماح رأسه وابتسم مركزًا نظره على أبيه وكأنه في قرارة نفسه يقول يا لسذاجة هذا الرجل ويا لسذاجة كل الذين يعتقدون ويؤمنون أن الدراسة والشهادات العليا تأتي عند الحصول عليها بالغنى والجاه، وفكر في عدد الذين يحملون شهادات عليا وشهادات دكتوراة وإن كان بعضها مجرد قطعة ورق حصل عليها أصحابها بطرق ملتوية دون أن يدرسوا أو يقدموا أي أبحاث، فقد أصبح هناك دكاكين كثيرة تبيع أنواع الشهادات لمن يدفع الثمن".
وقضية الفوارق الحضارية في المجتمعات الخارجية، منظورة في التزام هشام وانفلات طرماح بقول الراوي: "هنا في أمريكا كل شيء يكاد يكون مباحًا ولا حدود للحرية الشخصية، - كان يجب أن تكون هناك صدمة حضارية صاعقة بين الحياتين في أمريكا وفي السعودية- ومن لا تهزه الصدمة يكون صاحب شخصية قوية راسخة واثقًا من نفسه".
ثم مشاكل الابتعاث، وعدم تجويد الدراسة وعنها يقول الراوي: "كان هناك عدد كبير من الطلبة السعوديين مبتعثين إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، فهي جامعة يفضلها الطلبة بسبب تعدد الموجودين منهم الذين بقصدونها ويحضرون معهم عاداتهم وأساليب حياتهم من اجتماعات وسمر وتسلية فلا يقاسون الغربة. ولهذا السب فقد ذهب بعضهم إليها وعاد بشهادة ليسانس وهو لم يتعلم شيئًا كثيرًا ولم يتقن حتى اللغة الإنجليزية!"
وقضية التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي وما يعنيه "الأجنبي" فيها، حيث "لديهم هنا حرية وديموقراطية ولكنها مقصورة على الجنس الأبيض ولا تجد الأجناس ألخرى شيئًا منها..".. وغير ذلك من القضايا الأخرى التي جاءت على ذكرها الرواية، بشكل متسق ومنسجم مع أحداثها..
الرواية صادرة حديثًا عن "دار مدارك للنشر" وتقع 339 صفحة من القطع المتوسط. أما مؤلفها الروائي منصور الخريجي، فحاصل على شهادة الليسانس في الأدب الإنجليزي من جامعة القاهرة في عام 1985م، ودبلوم الدراسات العليا في الأدب الإنجليزي من جامعة ليدز عام 1961م، والماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة نبراسكا في الولايات المتحدة الأمريكية، وله من المؤلفات، رواية "دروس إضافية" صدرت عام 1988، و"ما لم تقله الوظيفة -صفحات من حياتي" صدر عام 1999م، ومجموعة مقالات تحت عنوان "كلام جرايد" عام 2006م، و"من زوايا الذاكرة" صدر عام 2008م، كما قام بترجمة كتاب "عبر الجزيرة العربية على ظهر جمل" للرحالة الدنماركي باركلي رونكيير عام 1999م.