يلاحظ المراقبون أن السياسة الخارجية التركية أخذت منحًا أقل ما يقال فيه إنه أقل تعقلًا مما كانت تعرف به قبل محاولة الانقلاب في يوليو 2016م. فمنذ تلك اللحظة وتوترات متوالية تحدث بين تركيا وعدد من دول العالم خاصة في أوروبا وأمريكا، لم يترك فيها الساسة الأتراك بدءًا من الرئيس ومرورًا برئيس الوزراء وانتهاءً بوزير الخارجية المجال للعودة أو وسائل للصلح.
اليوم عاصفة جديدة تهب على العلاقات التركية الألمانية بدأت منذ أن منعت السلطات الألمانية العام الماضي مسؤولين أتراكًا من إلقاء خطبًا في الجالية التركية المقيمة على الأراضي الألمانية والبالغ عددهم قرابة (3) ملايين تركي. وقبل شهر تحديدًا رفضت السلطات التركية الموافقة على زيارة برلمانيين ألمان لجنودهم في قاعدة انجرليك في جنوب تركيا مما دفع ألمانيا إلى سحب قواتها من القاعدة وإعادة انتشارها في الأردن بمصادقة مجلس الوزراء الألماني على المذكرة التي أعدتها وزيرة الدفاع أورسولافان ديرليين، وبالفعل انسحب (260) جنديًا ألمانيًا ضمن قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش من القاعدة في بداية شهر يونيو الماضي.
قبل انسحاب الجنود الألمان وبعد أن احتجت الحكومة الألمانية على المنع التركي والتهديد بسحب قواتها من القاعدة لم يجد أي شيء من ذلك صدى لدى المسؤولين الأتراك بل قابلوا ذلك بنوع من السخرية بقولهم وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان: «مع السلامة» مما يدلل أكثر على طبيعة اللغة الجافة وغير الحكيمة التي تصدر عن السياسة الخارجية التركية.
لم تقف حالة التوتر بين تركيا وألمانيا عند هذا الحد بل تشهد أيامنا هذه توترًا كبيرًا نتيجة لعدم موافقة السلطات الألمانية على إلقاء الرئيس التركي أردوغان خطابًا في الجالية التركية المقيمة في ألمانيا. فكما نقلت وكالات الأنباء فإن الحكومة التركية تقدمت بطلب للسلطات الألمانية للموافقة على لقاء الرئيس أردوغان بأبناء الجالية التركية على هامش حضوره لقمة دول العشرين التي ستعقد يومي (7-8 يوليو الجاري) في مدينة هامبورغ الألمانية، وحسب تصريح وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل فإن الحكومة الألمانية «تلقت طلبًا رسميًا تركيًا مفاده رغبة الرئيس أردوغان مخاطبة مواطنيه على هامش قمة العشرين وأننا لا نعتبر الأمر فكرة جيدة.. وسنستقبل الرئيس أردوغان بكل حفاوة وتقدير باعتباره ضيفًا على القمة».
المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين لم يترك الفرصة لأي توقعات أو تفسيرات عن موقف الرئاسة التركية من رفض السلطات الألمانية فرد بعنف بقوله: «إن محاولة عدد من السياسيين الألمان منع إجراء اللقاء يعد دليلًا ملموسًا على ازدواجية المعايير السائدة في أوروبا.. وإن تصريحات هؤلاء السياسيين استفزازية وتنطوي على سوء نية ولا يمكن قبولها».
اللغة الجافة والصارمة التي تشهدها أروقة السياسة الخارجية التركية غير حكيمة إطلاقًا فهي لن تقود إلى تحقيق أهداف تركيا من انفتاحها على جوارها الأوروبي والعربي والتركي (وسط آسيا) والشرق أوسطي كما كانت إبان فترة أحمد داود أوغلو (سواء في وزارة الخارجية أو رئاسة الوزراء) التي ضمنها كتابه «العمق الإستراتيجي» وفتحت بالفعل أبواب كل جوار تركيا بترحاب وساهمت في تنشيط حركة الاقتصاد التركي وتحوُّل تركيا من دولة تعاني اقتصاديًا واجتماعيًا إلى إحدى دول العشرين الاقتصادية الكبرى في العالم، فهل يعود الرشد إلى تلك السياسة أم يبقى الانفعال وعدم التروي مسيطرين على الساسة الأتراك فتفقد تركيا كثيرًا مما جنته خلال العقدين الماضيين!؟