قد تكون الأصوات المتشائمة من تطور تكنولوجيا الاتصال أقل ضجيجًا اليوم، بعد اقتناع بعضهم بجدوى التطور في هذا المجال، واستسلام ما تبقى منهم لليأس من التغيير والتأثير في تقدم هذه العجلة... لكن لعله من المفيد التذكير بأنه لطالما كان الاتصال، منذ عرف الإنسانُ الوجودَ، العصا السحريةَ التي ساعدته على إدارة حياته، وحل أزماته، والإجابة على أسئلة البقاء التي صادفته منذ خطواته الأولى على سطح الأرض. هذه الأسئلة كانت تطرقها طبول الحرب بقدر ما تطربها مزامير السلم، ولذلك أولت العلومُ أهمية خاصة للاتصال، في محاولة لاكتشاف كنهه، وتأطير طبيعته، ورصد أثره في تطور البشرية، وتحديد أشكاله وأنواعه. وليس جديدًا أن عددًا من المجالات المعرفية تشترك في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، حتى أصبح «الاتصال» مجالًا مستقلًا، يضم فروعًا مختلفة، تضاعف الاهتمام بها عالميًا، مع دخول العالم في مرحلة الانفجار التكنولوجي والتطور الهائل في تقنيات الاتصال. ويكاد يتفق الباحثون على أن غريزة الإنسان في التجمع والانتماء لجماعة من جنسه دعته لاكتشاف وتطوير وسائل اتصال تساعده على تحقيق أهدافه الاجتماعية. وقد قال الفارابي: «وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج، في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة، لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال». كما رأى ابن خلدون أن «الاجتماع الإنساني ضروري»، لأن «الإنسان مدني بالطبع،
أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة...».
من هنا يذكر الناقد ريموند ويليامز أن الفعل (communicate) القادم من اللاتينية، كان يشير إلى دلالات تدور حول المشاركة؛ مثل نقل المعلومات، الإخبار، والتوصيل. ومع التطور الصناعي الذي شهدته أوروبا في القرن السابع عشر، وبروز وسائل مواصلات بمفاهيم حديثة، مثل الطرق البرية، القنوات البحرية، وسكك الحديد، ارتبطت كلمة (communication) بهذا المعنى الحسي للاتصال، حتى شهد العالم بداية التطور في وسائل مشاركة المعلومات والتواصل الاجتماعي في القرن العشرين، ليتحول مفهوم الكلمة للإشارة إلى كل ما يتصل بوسائل الإعلام (media
).
ويوفر جون هارتلي في كتابه (الاتصال، والدراسات الثقافية والإعلامية: المفاهيم المفتاحية)، تلخيصًا مميزًا لأهم المحطات التي مر بها مفهوم الاتصال ونظرياته. يعرف الكتاب الاتصال بأنه: «تفاعل بإشارات (علامات) مشتركة ومتفق عليها»، رغم أنه - كمجال - يتسم بكثير من الضبابية والتشابك منذ نهاية القرن العشرين، لأنه يتقاطع مع كل الأبعاد التي تطال النشاط الإنساني وغير الإنساني، ما جعله أحيانًا يضطلع بأسئلة فلسفية تتصل بالوجود الإنساني ككل. فعلى سبيل المثال ربط الأنثروبولوجي البنيوي كلود ليفي شتراوس الاتصال ببعدين ثقافيين رئيسين: هما المال والزواج، حيث يرى شتراوس أن «دورة العلامات» (في اللغة والفن)، والنساء (في أنظمة القرابة)، والنقود (في الاقتصاد) تشف عن بنى متقاربة تكشف
العوالم المشكلة للعقل البشري.
وبعد أن يتحدث هارتلي عن عدد من التحولات في مفهوم الاتصال، ينتهي إلى أن الاتصال -كعلم- حقق استقرارًا جيدًا بعد الحرب العالمية الثانية، التي أظهرت أهمية المخترعات الحديثة في تحديد نتائج الحروب. من هنا كان الدعم غير المحدود لمشروعات الحوسبة وتقنية العلومات، الذي وفر لعلم الاتصال من الوسائل، ومن المخيلة العلمية الواسعة الآفاق، ما جعله يسهم في تحويل حياة البشر من مختلف أعراقهم.