كنت في السادسة، وكنا حين نخرج مع والدتي في طريقنا للمدرسة على إيقاع مقدمة ذلك البرنامج الصباحي «الأرض الطيبة»: «احرث وازرع أرض بلادك، بكرة تجني الخير لاولادك» كنا نمر بجوار تلك الطائرة البرتقالية التي تتوسط الرصيف في شارع الملك خالد، وكم بدت تلك الطائرة كبيرةً وقتها، مثل أحلامي في الطفولة قبل أن أصبح في هذه الدنيا مسافرًا زاده الخيال.
ولسنوات، كنت أظن أن تلك الطائرة هي الطائرة المهداة من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى الملك المؤسس عبدالعزيز - رحمه الله - بمناسبة لقائهما الشهير في البحيرات المرة بقناة السويس على ظهر السفينة الحربية USS QUINCY
عام 1945 لتبدأ قصة الطيران في وطننا.
أمرّ بجوارها وكأني أسمع أزيز محركاتها يحكي قصة مجد تليد في زمان جاد بالرجالات وسط شح الإمكانيات.
كانت فترة بناء وتأسيس ترك المجال فيه مفتوحا للابتكار والاجتهاد، ففي حين غابت أي سلطة حقيقية للطيران المدني قامت الخطوط السعودية بأعمال الأرصاد والاتصالات اللاسلكية والمراقبة الجوية إلى أن أنشئ الطيران المدني عام 56.
وكأني أرى العم «عبدالسلام سرحان» يخطط مطار جدة القديم أو مطار «عباس بن فرناس»، وقد أوكلت إليه مهمة تخطيط مهابط الطائرات، في وقت لم يجد أمامه إلا امتطاء الجمال والحمير للتنقل وسط صحراء بلادنا ليعسكر هنا وهناك ويرصد اتجاهات الرياح وسرعتها ودرجات الحرارة أيضا قبل أن يتضجر من تدقيق العم «محمد ملا» المحاسب الذي يشاكسه على مصاريف علف الدابة التي استخدمها!.
من منا يعرف الأستاذ عبدالقادر جزار صاحب أحد أغرب المكاتب في العالم وهو خيمة نصبت في أرض مطار جدة، وكأني أراه ما زال يستقبل الطائرات ويشرف على راحة الركاب.
ماذا عن العم «حسين حمزة» الذي ربما كان أول راصد جوي في المملكة وقد تعلم مهنته بالممارسة.. وكيف كان يبسط الكلمات وقتها حين يسأله الطيارون عن حال الطقس: «غيم سكري مع هتان، والهوا يغطرف من الشمال!»
كيف أدرك الفريق إبراهيم الطاسان فنون إدارة الموارد البشرية ولم يغفل الجانب الإنساني في ذاك الزمان رغم كونه رئيسا لهيئة أركان الجيش ومشاركا في حرب فلسطين؟ فلم يكن رحمه الله من هواة الخصم من المرتب، وكان بالمقابل يبقي على الموظف المخطئ في العمل ساعات أطول، ويحفز المنتج منهم برحلات للحج والبعض الآخر بالسفر إلى القاهرة وبيروت في عطلة بسيطة ويجعل الطائرة تمكث بانتظارهم إلى حين عودتهم!
هي بيروت ذاتها التي حلقت في سمائها طائرة «السكاي ماستر» عام 52 في احتفال افتتاح مطار بيروت الدولي وألقت عشرين بطاقة تمنح حاملها تذكرتي سفر للأراضي المقدسة وكان من الطريف أنه لم يتقدم سوى ثلاثة أشخاص بالبطاقات لتسلم الجوائز!.
وعندما واجهت الخطوط السعودية معضلة ضعف مخرجات التعليم آنذاك، قامت بخلق برامج تدريبية إعدادية للملتحقين، وفي حين خشي البعض من تسربهم للعمل في قطاعات أُخرى، طمأنهم البعض الآخر بأن ذلك استثمار سيعود نفعه على الوطن في أي مكان آخر، أي وطنيةٍ هذه؟
من منا يعلم أن هذا الكيان كان ذاخرا برجالات غدو في زماننا وزراء ومسؤولين كالوزيرين إياد مدني ومدني علاقي مع حفظ الألقاب.
هل تروي طائرتنا قصة النجاح فقط أم أن النجاح ولد من رحم شيء من المعاناة؟ وهل كانت الصورة وردية تماما أم أن ظاهرة «النوستالجيا» جعلت نشوتنا تطغى على حقائق التاريخ؟ يتحدث السيد «حمزة الدباغ» في كتابه القيم «من الجمل الى الطائرة» (صادر عن دار المرسى) عن أهم التحديات في حقبة الشيخ أحمد صلاح جمجوم 1963: «كانت مهمته شاقةً جداً، فالخطوط كانت تعاني من مشكلات عديدة، نمو متسارع في الأسطول مع موارد إدارية ضعيفة أو معدومة، وبصفة خاصة في المراكز القيادية. كانت الخطوط نمو فنيا فقط؛ يتسع أسطولها فتسارع إلى تأمين قطع الغيار، وجلب المهندسين والفنيين والطيارين اللازمين لتشغيل وصيانة الأسطول ولكن الخطوط في الجانب الإداري والمالي والتجاري ظلت عاجزة تماما. هذه ظاهرة عانى منها العالم الثالث، عندما ينصرف الاهتمام إلى تأمين وشراء الطائرات اعتقادا بأن ذلك هو ما تحتاجه شركات الطيران، حيث يتم استيراد ما تحتاجه هذه الطائرات من خدمات في غياب كامل لمتطلبات المؤسسة من القوى العاملة اللازمة لإدارة الأسطول وتسويقه وبيع المقاعد والدعاية له». ويضيف: «كان نموها أسبق من استعدادها وقدرتها.»