من حين لآخر يُشغَل المجتمع بقضايا ساخنة ينتج عنها اختلال في الرؤى واضطراب في الأفكار، وتظهر على إثرها خطاباتٌ مشحونة بالكراهية والإقصاء والتشفِّي. هذه القضايا تُعد بمثابة الفرص السانحة للبعض كي يعمل على تزييف الوعي وإيهام الآخرِين بعدالة المطلب حين يأتي في ثياب الشفقة والحرص على اللُّحمة الوطنية. ونتيجة لثبات تلك القضايا وازدياد حدتها فقد ظهرت أصوات تطالب بسَنِّ قوانين تجرِّم ما سُمي بـ (خطاب الكراهية) وهو مطلب يتواطأ عليه العقلاء والمنصفون، ويختلف عليه أصحاب النوايا المخاتلة والمآرب الخفية. الأمر المحيِّر في مسألة تجريم خطاب الكراهية أن هذا المطلب لا يظهر -عند بعض المطالبِين به- إلا أُحاديَّ الاتجاه وفي قضايا معينة، وهو ما يبعث الريبة ويثير الشكوك ويرسم علامات التعجب حول مصداقية تلك المطالب وعدالتها؛ فهؤلاء يعلمون أن هناك خطابات أخرى تفوق -في كراهيتها- الخطابات التي يُدينونها، بعض تلك الخطابات يحمل النَفسَ التياري وبعضها يحمل النفس الطائفي وبعضها يحمل النفس المناطقي وبعضها يحمل النفس العنصري وبعضها يحمل النفس الشوفيني، ومع هذا لا تقوم قائمة المطالبِين إزاء هذه الخطابات الكريهة ولا تعنيهم نتائجها. المضحك في الأمر أن بعض المطالبِين بسن قانون تجريم خطاب الكراهية هم أنفسهم من يمارس خطاب الكراهية بحق المختلفِين معهم، ويرون أنهم محقُّون في ممارسته مع الآخرِين، وليس للآخرِين حقٌّ في ممارسته. بالأمس طالبَ واعظٌ بعدم الترحم على الفنان عبدالحسين عبدالرضا رحمه الله وعلى إثر ذلك تعالت الأصوات المطالبة بتجريم مثل هذه الخطابات التي تؤسس للكراهية، وهذا المطلب (تجريم خطاب الكراهية) حقٌّ في ظاهره، بغض النظر عن نوايا المطالبِين أهي انتصار للُّحمة الوطنية أم لمآرب أخرى. ما يهمنا هو أن بعض المطالبِين -وأعني هنا المطالبِين من خارج طائفة عبدالحسين- مرَّت على أسماعهم وأبصارهم خطابات كراهية أشد نتنًا بحق بعض ولاة الأمر الراحلين رحمهم الله، وبعض السلف رضي الله عنهم، وبعض الشخصيات العربية والإسلامية التاريخية والمعاصرة، وليس بعيدًا عنا تلك الخطابات الكريهة التي ظهرت مؤخرًا بحق الشيخ عبدالله عبدالعزيز الجبرين رحمه الله، ولم تحرك جميعها فيهم ساكنًا، ولم يروا أنها تأخذ حكم الكراهية.
تجريم خطاب الكراهية أمر ينادي به العقلاء شريطة أن يكون (شاملاً)، ويدندن عليه المأزومون مؤمِّلِين أن يكون (ذا اتجاه واحد)، وهذه ازدواجية مفضوحة تكشف عن فساد مطلبهم. ومع كل هذه الحقائق الدامغة لا يزال بعض المطالبِين بتجريم خطاب الكراهية يوهمون المجتمع بأن للكراهية اتجاهًا واحدًا، فتراهم يتنادون لاستصدار قوانين تجرم خطابات مخالفيهم دون خطاباتهم، في حين يرى المنصفون الكراهيةَ ذات اتجاهات متعددة، ويطالبون باستصدار قوانين (شاملة) تردع كل من يصدِّر خطاب الكراهية بغض النظر عن طائفته أو تياره أو جهته.
نداء خالص أوجهه للجهات المختصة بالوقوف مع هذه القضية وقفة نهائية تضع لها حدًّا، واتخاذ قرار نهائي حيالها يتسم بالشمولية؛ ويأخذ في اعتباره أن للكراهية (اتجاهات متعددة) وليس اتجاهًا واحدًا كما يريده البعض ويحاولون تمريره، وبذا تُحفظ كرامة المواطن (سنيًّا وشيعيًّا ومحافظًا وليبراليًّا وشماليًّا وجنوبيًّا...). ندائي هذا أنطلق فيه من كوننا نعيش مرحلة تطوير شامل في ظل رؤية 2030 التي يقودها سمو الأمير محمد بن سلمان وهو ذو ثقافة ودراية واطلاع، وهو الأقرب للمجتمع والأعرف بما يدور بين مكوناته، وهو أيضاً الحريص على كل ما من شأنه أن يُمَتِّن (الوحدة الوطنية) ويحفظ كرامة مكونات المجتمع (دون استثناء).