حفيدات جريتا جاربو، هي الرواية الثانية للشاعرة والروائية المغربية عائشة البصري التي تعتبر من الروائيين القليلين الذين انتقلوا إلى الرواية بسلاسة وقوة، دون القطيعة مع الشعر. جاء صدور هذه الرواية موازيًا لمئوية الممثلة السويدية الكبيرة جريتا جاربو التي ظلت سيدة الشاشة زمنًا طويلًا، قبل أن تنطفئ بشكل خياري وإرادي، وظلت في انسحابها عن المشهد السينمائي، حتى وفاتها في 28 أبريل 1990. علمًا أنها ولدت في 1905 في ستوكهولم. واسمها الأصلي هو غريتا لوفيزا غوستافون. ولقب جاربو يعني بالإسبانية السيدة الأنيقة. وهو الاسم الذي التصق بها أبدًا. أحاطت بصورة سلسلة من الأسرار زادت من أسطورتها، عنيدة، فقد كانت كلما غضبت هددت الجميع في هوليوود أو في غيرها بالعودة إلى السويد. يكفي أن نعرف أنها السيدة التي أدت دور سيدة الكاميليا لندرك قيمتها ونتيقن أن خيار الكاتبة لاسم العلم الدال، لم يكن اعتباطيًا. للدلالة الرمزية التي يقدمها الاسم الأيقوني لجريتا جاربو، الذي يكفي وحده للدلالة على الجمال، والحب، والنضارة الدائمة، والقوة والتأثير، والإرادة، والاختيار مهما كان الثمن الذي يدفعه المرء غاليًا وقاسيًا.
خيارات عائشة البصري إذن ليست بسيطة أبدًا، فهي تدل على عمل مسبق وجاد في المادة الفنية والتاريخية. تتمحور الرواية حول شخصيات عديدة يجمعها مستشفى الأمراض النفسية والعقلية. ناس فقدوا علاقاتهم الاعتيادية بما يحيط بهم، بسبب وضع شديد القسوة والظلم الذي يبتلع الضعيف بلا تردد، بالخصوص المرأة. البطل المختار لتأدية الوظيفة الروائية هو أيضًا لم يخرج عن هذا التوصيف. فهو يعاني من حالة الازدواج الجنسي، والانفصام المتوغل فيه، ويتحكم في كل تصرفاته وعلاقاته. صفته المشتركة مع الآخرين مع مرضى المستشفى، الجنون. فهو يرى نفسه طبيبًا نفسيًا حساسًا ومصغيًا لآلام الآخرين. يعيش حالة التقمص باكتمال عال. وهو وجه للحقيقة الاجتماعية المريضة. واحدة من أهم صفاته التخيلية أنه لم يأت من سلالة فارغة أو عادية، ولكن من ذرية واحدة من أكبر ممثلات العصر: جريتا جاربو. ويستند على دليل قاطع يظنه يقنع المرضى الذين لا يحتاجون إلى إثبات بقدر ما يحتاجون إلى من يصغي إلى آلامهن وعزلتهن القاسية التي تتخفى وراءها تسع مآسٍ متفردة، لنساء مختلفات. عينات مختلفات في كل شيء وإن كانت المآلات الماساوية متقاربة. عائشة تبذل جهدًا كبيرًا في هذه الرواية، لكي لا تضع الصراع المرأة/ الرجل في أفق الصراع الجنسي المرتبط بالجندر، ولكن بالمشاكل الكبيرة التي تتبطنه كالمظالم الاجتماعية. لكي يثبت للآخرين في المستشفى قيمته العليا يظهر البطل صورة لجريتا جاربو وهي تحمل طفلًا على ظهرها. يظن، بل مقتنع أنه هو ولا أحد غيره. مع أن القصة، كما تشرح الكاتبة، غير هذا. فالصورة اختارتها جريتا أثناء دعايتها للترويج لأحد أفلامها الذي يجسد آلام وانكسارات أطفال الملاجئ إبان الحرب الأهلية في إسبانيا.
وكما ذكرت سابقًا، فقد اختارت الروائية تسعة نماذج نسائية تستجيب لمختلف القطاعات الاجتماعية لتبين أن الضيم لا يمس فئة واحدة ولكن كل الفئات الاجتماعية، إذ تسحق آلة الظلم الكل بلا رحمة ولا تردد. الجنون حالة صعبة ولكن يقف وراءه ظلم كبير، قد لا يكون مرئيًا في كل الحالات كما يقول ميشيل فوكو في تحليله لظاهرة الجنون والحجز، أو السجن القسري. الرواية تنتقل إلى تحليل اللوحة الخلفية للنساء التسع. التجليات النسوية كثيرة في الرواية، من المرأة المقهورة داخليًا، وتجد الكاتبة في هذا السياق، متسعًا للتفصيل فيها، فهي تعرف الحالة جيدًا. صحيح أن الرواية اعتمدت بقوة على التخيل، لكن كم أن الشبه كبير بما نعيشه على الصعيد الشخصي والعام. نحن في مجتمعات جائرة قانونيًا، وظالمة اجتماعيًا، ومهزومة نفسيًا، وكل ما ينتج عنها لا يخرج مطلقًا عن هذه الدائرة. هذا المجتمع هو الذي حولهن إلى هامشيات أو مجرمات، أو دمى معروضة للبيع واللذة، أو مجنونات، أو ضحايا الشعوذة والجنون، وهتك أجساد القاصرات باسم الزواج، وحتى الكاتبة المطلقة التي تعد أصابع الرجال الذين مروا على جسدها وهي في دوامة رواية تريد كتابتها، أعطتها عنوانًا خاصًا يحيل إلى زمن مضى، مازالت تعيشه باستمرار وكأنه حياتها الراهنة: مقتطفات من ذاكرة مفقودة. لكل امرأة معاناة لا تنتهي مع المحيط، ولكن أيضًا مع مجتمع ذكوري حلل لنفسه كل شيء، وجعل من المرأة، القوة المانحة للحياة، كائنًا يدور في دوامة الظلم حتى الجنون، حيث تحضر الاختزالات وتغيب الحلول. كل مجنونات مستشفى الأمراض العصبية والعقلية، لسن إلا الخلاصة الحية للجريمة الموصوفة التي لا يقترب منها أحد، والتي يتخفى من ورائها طاغية اسمه الذكر وليس الرجل، لأن الرجولة قيمة إنسانية إيجابية تدفع بالإنسان إلى التضحية من أجل المثل الرجولي الأعلى. من هنا فرواية أحفاد جريتا جاربو كتابة ضد الابتذال، ونشيد كبير للحب والجمال.