إنّ الأمم على اختلاف ثقافاتها وتنوّع إرثها الحضاري والفكري، تقف صفًّا واحدًا في أوقات الأزمات، والملامات الكبيرة، مدفوعة في ذلك بحسها الوطني المتنامي، والذي يتجاوز كل الخلافات في مثل هذه الحالات، وتتوحّد فيه الرؤى والجهود من أجل تجاوز المحن الطارئة، والأزمات العابرة، وأي خروج عن هذا المفهوم والقاعدة، يعد -في نظر المحلّلين- خيانة للوطن، وتغريد خارج السرب.. ولا ينظر إليه على الإطلاق باعتباره تعبيرًا حرًّا في فضاء الديمقراطية، ولا يؤخذ بهذه الذريعة، لأن سقف الديمقراطية والحرية في المجتمعات الغربية نفسها محكوم بقواعد ومرعيات لا يسمح بتجاوزها، ولهذا تجد «المعارضة» في أي نظام من أنظمة الحكم في الدول الغربية محكوم بقواعد اللعبة الديمقراطية وثوابتها المرعية، ولا يسمح بالخروج عنها بسلوك يماسس الخيانة الوطنية، أو يقرب منها، فذلك مما يعاقب عليه القانون، ويجرمه العرف.. وهذا ما يجب أن يعيه كلُّ من يستند إلى المرجعية الغربية فيما يتصل بمفهوم الديمقراطية والحرية، ويحاول أن ينال من نظام الحكم في وطنه، بحديث أقلّ ما يمكن أن يوصف به أنه «خطأ فادح»، فليس كل حديث يطلق على عواهنه مقبول في عرف الحرية الغربية، كما يتوهم البعض، ولعل إطلالة عجلى على مدوّنات بعض الشخصيات السياسية الغربية، تكشف لنا ذلك.. فأثناء حرب السويس الشهيرة، كان حزب العمّال البريطاني يقف موقفًا معارضًا لحزب المحافظين في شنّ تلك الحرب، ورغم هذا الموقف المعارض إلا أننا نقرأ موقفًا مغايرًا لهارولد ولسون، نائب رئيس حزب العمّال آنذاك، الذي يشير في مذكراته إلى أنهم كانوا على حذر من توجيه نقد شديد للحكومة؛ لأن جيش الملكة كان في حالة حرب، وربما يؤخذ أي نقد شديد على أنه نوع من أنواع الخيانة للوطن.
كما حذّر ماك ميلان، رئيس الوزراء البريطاني السابق، سلفه مارغريت تاتشر عندما كانت زعيمة للمعارضة عام 1976م، وكانت شديدة النقد لحكومة العمّال، ذات الأقلية البرلمانية، فاجتمع ماك ميلان بتاتشر، وقال لها: إن الحكومة عندما تكون ضعيفة كمثل هذه الحالة، يجب أن لا يوجّه إليها النقد بهذه الصورة الشديدة؛ لأن الحكومة والمعارضة يعملان معًا لصالح الوطن..
كذلك عندما انتقدت تاتشر حزب العمّال اليساري، في رحلة لها خارج بريطانيا، وجّهت لها الصحافة لومًا شديدًا على هذا المسلك، كونها تحدثت في أمر سياسي يخص بريطانيا في محفل خارجي، بما يشي وكأنه «تدويل» لقضية محلية بحتة، الأمر الذي ينكره العرف السياسي البريطاني..
وتأسيسًا على هذه الإشارات التي سقناها، فإن من المهم أن ندرك جميعًا، وبخاصة النخب الفكرية والثقافية والسياسية، سواء داخل منظومة الحكم أو خارجه، أننا جميعًا محكمون بثوابتنا المضيئة التي ترعرعنا عليها ونشأنا، والهادفة في جوهرها إلى حماية الوطن وصون ترابه، والتأكيد على أمنه وسلامته تحت راية التوحيد الخالدة، ولن يكون هذا الدور مكتملًا إن لم نعِ جيدًا ماهية ما نكتبه عن وطننا، ونتوخي الدقة والموضوعية في التناول، والبعد عن النوايا المفخخة والأجندات الخفية، فإن ذلك كله مما يعد خيانة للوطن، وخروجًا عن ثوابته المرعية.. حفظ الله هذه البلاد، وأدام عليها عزها ومجدها تحت راية التوحيد، وقيادتها الحكيمة، وشعبها الوفي.