يبدو أن حملات التشهير والتجييش قد أصبحت روتينًا يوميًا هذه الأيام، فلم يعد الأمر يحتاج إلى أكثر من وضع هاشتاق مثير في موقع مثل موقع تويتر، ثم محاولة اصطياد انتباه الجماهير في هذا العالم الافتراضي، بصورة مثيرة (لا يهم إن كانت حقيقية أو مزورة)، أو بخبر مثير أو قصة مثيرة (لا يهم إن كانت حقيقية أو مزيفة)، ثم متابعة عجلة الغضب والتشفي والهجوم غير المبرر الذي قد يطال الشخص أو الجهة المعنية وكل من يمت لهم بصلة (لا يهم في أي عصر عاش أو مات هذا الذي يمت بصلة).
مديرة المدرسة وملاحظة الرائحة مثال قريب، وإن كنت لا أحتاج مثالًا هنا، فحملات التحريض والإساءة أكثر من أن يفوتها أحد على هذه الأرض المباركة. كل هذا رغم ما تفعله الجهات المختصة، سواء وزارة الإعلام أو النيابة العامة والجهات القضائية الأخرى من محاولة لكبح جماح الظاهرة والحد منها بالتشريعات وسن قوانين النشر الإلكتروني ومطاردة بعض الجناة وغير ذلك من جهود.
أقول: رغم كل هذه الجهود إلا أننا نرى الظاهرة في تضخم وازدياد مقلق بلا شك. أعتقد أن الأمر يتجاوز الحد كثيرًا، وله عواقب وخيمة في مناسبات مختلفة. وقد يقول قائل إن لهذه الحملات بعض الإيجابيات إذ تُمثِّل تحذيرًا لكل مَن تُسوِّل له نفسه بالفساد أو التراخي في مسؤولياته، كما أن الشخص البريء يمكن له أن يُظهر براءته من التهم التي قد تُوجَّه له في هذه الحملات. أقول ربما.. لكن قد لا يحدث هذا إلا بعد أن يقع الضرر على هذا البريء، ولا يصبح لتبرئته معنى بعد ذلك، أتحدث هنا عن الضرر الاجتماعي والنفسي الذي يقع جراء الإشاعات والأكاذيب التي تطال هذا الإنسان أو تلك الجهة.
سبق أن أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن هذا السلوك الهمجي وغير الحضاري أصبح أمرًا مقلقًا، وظاهرة اجتماعية محيّرة لا بد من التعامل معها بجدية، قبل أن نفقد الثقة في أنفسنا وفي بعضنا البعض. يرى عالم التحليل النفسي الشهير «سقموند فرويد» أن للجماهير المجتمِعة سماتٍ خاصةً يتسم بها الأفراد حال دخولهم في المنظومة الجماهيرية. يرى «فرويد» أن الفرد في الأساس قد لا يتسم بهذه السمات في ذاته، أو أن هذه السمات موجودة فيه لكنه لا يجرؤ على التعبير عنها أو البوح بها بصراحة ووضوح مثلما يفعل حين يندمج مع الجماهير. ومن خلال متابعة الوضع في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، لا يبدو أن هذه السمات تختلف حتى في حالة الجماهير الافتراضية. من هنا أرى أنه من المهم أن يضع المسؤولون هذا العامل «الجماهيري» في اعتبارهم حين يتعاملون مع أي قضية تُثار في وسائل الإعلام بشتى أشكالها على الدوام. كما أن التغيير، أي تغيير، لا يتم إلا بالعمل الدؤوب المنظَّم.. فليس هنالك حلول سريعة التحضير مباشرة المفعول.. هذه العبارات لا توجد إلا في لغة الإعلانات.. أعتقد أن معالجة هذه الظاهرة تحتاج لأكثر من التشريعات وسن قوانين النشر والمشاركة في الإعلام على أهميتها. يحتاج الأمر لأن يصبح إستراتيجية عامة تطال مجالات التربية وشؤون الأسرة والمجتمع ووسائل الإعلام ومجالاته المختلفة. هذا إن أردنا فعلًا القضاء على التشهير وبث الإشاعات والتهجُّم الأعمى وغيرها مما لذ للجماهير وطاب من روائح.