من أعقد التعريفات، تعريف الهوية. تتلون بتلون مشكلات العصر ومقارباته المختلفة؛ فهي تتخذ لها أحيانا وجها ثقافيا يستولي على الخصوصيات العامة لشعب من الشعوب، بدءا من الثقافات الشعبية حتى الثقافات العالمة، فتستعمل هذه الخصوصيات وفق الحاجة التي يريدها من يريد
أن تستجيب الهوية لضيق رؤاه في الفترات الصعبة.
نقاش الهوية كثيرا ما يصاحب الأزمات والخيبات الكثيرة في مجتمع من المجتمعات، فيتبدى في شكل حل لمعضلات المجتمع، فيضيف تثبتا fixation آخر لمختلف تثبتاته التي تعيق تطوره أو حركته، وكل من خرج عن هذه التثبتات تحول إلى عدو أو شبيهه، أي شخص لا حق له في العيش مع جماعة يتواصل معها ويختلف عنها
في الوقت نفسه.
من هنا يطرح السؤال القاسي: هل الهوية حالة مكتملة في الزمان والمكان، أم أنها حركية إنسانية، في أفق التطور والانفتاح والتكوين الدائم؟ وهو ما يجعلها مثار تساؤل
دائم.
تشغل الهوية في ثقافتنا حيزا مهما، وتحتاج ليس فقط إلى إعادة نظر ولكن إلى إعادة تشكيل جديد، وفق معطيات العصر وبعض معاييره. الهوية ليست كتلة جامدة، أنجزت في حقبة وانتهى أمر وجودها، المشكلة اليوم هي هذه؛ أي أن الهوية تكوين تام ومنتهٍ، إما الالتزام بخصوصياتها وعناصرها أو توضع خارجها، أي الانتماء على وطن، مع أن المواطنة أسبق وأهم، يمكنني أن أكون أمريكيا أولا، وبعدها أكون من أصول هندية بكل ما يعني ذلك من تنوع في ثقافة الهنود الحمر، أو إسبانية، أو أمريكية لاتينية، وهكذا، أخطر شيء أن تسبق الهوية فكرة المواطنة، هذا يؤدي بالضرورة إلى العنصرية والإقصاء، الروائي اللبناني الفرنسي، أمين معلوف، كان محقا عندما طرح هذه القضية بعمق في روايتيه: أصول والتائهون، ولكن أيضا في كتابه المهم: «الهويات القاتلة» الذي أثار جدلا واسعا حول كيف يمكن لكاتب عربي أن يعيش هويته المزدوجة، العربية بكل مكوناتها وخصوصياتها وقلقها أيضا؟ وهويته الفرنسية بكل تمايزاتها اللغوية والثقافية والحضارية؟ كيف يمكنه أن يجمع بين متناقضين تاريخيا، شرق وغرب، في هوية موحدة تشكل مساراته الحياتية والوجودية، من دون أن يشعر بالتقصير في هذا
الجانب أو ذاك.
كانت الأمور أوضح سابقا. الآباء المهاجرون كانوا يأتون أوروبا، فيجمعون المال ويعودون بعدها إلى أراضيهم، فيعيشون بقية حياتهم هناك، ويدفنون في تربتهم التي ولدوا فيها، في أرض الغربة هو مجرد مغترب وافد، بالنسبة له وللآخر أيضا، الأمر لا التباس فيه، لكن الآن الوضع تغير نهائيا، لقد أصبح ابن المغترب الوافد، ابن الأرض الجديدة، وينتمي إليها ثقافيا وحضاريا ولو في جزئه الأكبر، الكثير من العرب المتعصبين يرون في أمين معلوف خيانة لهويته الأصلية؛ لأنه يكتب بلغة غير لغته، والكثير من الفرنسيين العنصريين يرون فيه حالة وافدة على فرنسا تكتب بالفرنسية، لكنها لم تتخل عن عروبتها، أي أنه ليس فرنسيا كاملا، كأن الهوية ليست اغتناء دائما، ولكنها حرب تُشن باستمرار على الآخر الذي لم يعد آخر، الإشكالية الأساسية، وربما المعقدة أيضا، هي كيف نجمع بين الشتات من طرف الآخر
والأنا في الوقت نفسه.
الهوية كيان كلي مكون من سلسلة من الأجزاء والتفاصيل، بعضها مرئي، وبعضها الآخر غير مرئي، كلما دخلت عملية الانتقاء في صلب الهوية، وفق الحاجة المرحلية، قتلها وأفرغتها من محتواها، الانتساب إلى هوية ما يقتضي وجود مسؤولية كبيرة أي أن يكون الإنسان واعيا لخياراته التي ينتهجها، وهذا يضيف عنصرا آخر إلى الهوية وهو رؤية الحياة في اتساعها، أي ألا تتحول الهوية إلى جهاز لمنع الإنسان من أي تطور؛ لأنها عندما تتحول إلى معوق لأي انتقال نوعي في حياة الفرد والجماعات، تصبح شكلا من أشكال الضغينة، أي أنها عندما تتحول إلى حاجز بين الإنسان وبين نفسه، كما هو، وبينه وبين الآخر، تكف عن أن تكون إيجابية، وتصبح هوية
تدميرية للذات قبل الغير.
عناصر الهوية ليست فقط ما نتلقاه من ثقافة خاصة وتربية، فهي أيضا ما ننشئه من إمكانات وعلاقات حداثية وتنويرية مع عصرنا، لسنا وحدنا على هذه الأرض أبدا؛ نحن جزء من عالم واسع تتعارك فيه الأفكار، فإما أن نكون مساهمين فيه، في سلامه وفي خيره، أو أن نكون هامشه الميت، كل رهانات الهويات القادمة هي إما أن تكون إنسانية ومفتوحة على بعضها، أو تندثر ساحبة في أثرها
تاريخها.
الهويات عندما تتمركز حول ذاتها، تموت، أو تصبح متوحشة؛ لأنها ترى في الآخر أو الأنا المختلفة، عدوا مفترضا، سواء تأسست على الأديان أم على العرقيات والقوميات الضيقة.