كان الموقفُ البريطاني، خلال الجلسة التي خصصتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، للبحث والتداول بشأن قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بنقل سفارة بلاده إلى القدس الشرقية المتحدة، مع الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني - موقفًا إيجابيًّا مع الأصوات التي نددت بهذه الخطوة الحمقاء، على غير المتوقع، إذا ما أخذنا في الحسبان خطوة بريطانيا في الاحتفاء بمرور مئة عام على وعد بلفور Balfour Declaration.
وهذا الموقف يفترض علينا أن نحلل بواعثه من كل جوانبها، وهنا لا بد من القول بأن حرب العدوان الثلاثي كانت مفصلًا هامًّا في العلاقة بين بريطانيا وأمريكا؛ حيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الصوت الأكثر نفوذًا، والقوة الأكثر حضورًا في المشهد، وقد نشأ بعد ذلك تياران في حزب المحافظين؛ أحدهما يناصر الصوت الأمريكي، وربيبته إسرائيل، وصوت آخر ينظر إلى القضايا الدولية - وخاصة الفلسطينية - بمنظور المصالح، وأن السير خلف أمريكا وإسرائيل يفوت على بريطانيا فرص الاستثمار اقتصاديًّا وماليًّا مع الدول العربية على وجه الخصوص. وكان هذا التيار - وما زال - موضع نقد شديد في وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ حيث يُوصَف المتمسكون به بأنهم مستعربون Arabirst، بمعنى آخر أولئك المتعاطفون مع القضية الفلسطينية. ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن أهم شخصية حلت في منصب وزارة الخارجية البريطانية مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الميلادية - اللورد بيتر كارلتون، قد دعم المشروع الذي قدمه الملك فهد رحمه الله، في قمة فاس في بداية الثمانينيات الميلادية، وكان ينوي بالتشاور مع الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - والذي كان يشغل منصب وزير الخارجية آنذاك، تقديمَ المشروع وطرحه على طاولة الأمم المتحدة ليأخذه إلى العالمية؛ ولكن استقالة كارلتون المفاجئة في عام 1982م بعد حرب الفوكلاند، قد أرجأت هذه الخطوة الهامة، إلى حين لحظة أخرى مواتية، ولم يسلم كارلتون من هجوم في داخل بريطانيا وخارجها جراء هذا الموقف، ووصمه بتهمة عداء السامية، وكان كارلتون أيضًا مناصرًا للقرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية بعد حرب حزيران 1967م، الذي قدمه مندوب بريطانيا هيو فوت آنذاك، الذي يعرف أيضًا باسم اللورد كاردون Cardon ، وحمل اسم قرار 242، والذي أضحى من بعد ذلك مرجعًا لكل مشروعات التسوية في القضية الفلسطينية.
ويتساءل المرء: ما هو موقف أمريكا وأنصارها من هذا القرار لو قدم في هذه الأيام؟.. والإجابة على هذا التساؤل ستعكس - بلا شك - مدى التبعية التي أضحت عليها أمريكا في علاقتها مع إسرائيل، وانصياعها للوبي الصهيوني.
إن هذا الموقف البريطاني التاريخي انحرف عن مساره، بعد وصول مارغريت تاتشر إلى «داون ستريت»، ثم تبعها في هذا الشأن توني بلير العمالي، وكلاهما كان مناصرًا للدعاوى الإسرائيلية خصمًا على الحقيقة التاريخية المعروفة، كما يشترك كلاهما في التبعية لمواقف الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتصل بهذه القضية.
إن هذا الموقف، والمواقف الأخرى من دول الاتحاد الأوروبي وسواها، التي صوتت مع المشروع العربي ضد قرار «ترامب»، يجب أن تستثمر بشكل إيجابي؛ لتشكيل تيار يقف في وجه أمريكا وإسرائيل على حد سواء، خاصة وأن من ساند هذا القرار دول لا ثقل ولا وزن لها في السياسة العالمية.