إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا، وإنما يقبضه بقبض العلماء، كما قال رسول الهدى، والنبي المجتبى - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - وها هو الموت يغيب العالم الرباني والشيخ الجليل الأستاذ الدكتور «أحمد بن عبدالرزاق الكبيسي»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة أم القرى، بعد عقود من الدعوة والتعليم والتربية والتدريس، ضحى فيها بكل وقته، حتى خرج من مدرسته علماء ودعاة وأئمة للحرمين وللعالم أجمع، ينشرون العلم بوسطية واعتدال دون تقاعس واتكال، فكانت هممهم كالجبال، وحياتهم روحًا ونضالًا كحياة فقيدهم..
لقد عاش فقيد العلم حياةً مليئةً بالجد، فمن عراق التراث الى أزهر العلم إلى منبع الرسالة، يقطف العلم من كل بستان، حتى عاش بين جِنانه، ثم ارتقى في الخير والعطاء عَنانه، ولا تسأل عن الجود والكرم، فقد آسف من قبله وأتعب من بعده، لقد كان بيته ملاذًا للحاضر والباد، وملتقًى لأهل العلم وطلبته، وكان شيخنا العلامة «عبدالعزيز بن باز» - رحمه الله - إذا نزل بمكة لا يقبل دعوةً إلا من فقيدنا الشيخ الكبيسي، وكان - رحمه الله - إلى عهد قريب لا يمكن أن تُطبخ الولائم، إلا بيد مصونته السيدة «أم ملهم»، المرأة الصالحة العالمة، التي نذرت نفسها لزوجها، فتقرأ على يديه ليل نهار من الكتب وبحوث الطلاب ورسائلهم، إلى جانب طهيها أنواع وأصناف المأكولات لضيوفه، وتفرح بذلك، وتحث أبناءها بفضل إكرام الضيف، وأحسب أن شيخنا «أبا ملهم» أفضى إلى ربه وهو راضٍ عنها، وممتن لها؛ لتحملها شؤون زوجها وأبنائها وضيوفهم، دون كلل أو ملل.
لقد فقد أهل العلم وطلابه - خصوصًا الوافدين إلى مكة المكرمة - شيخهم وأستاذهم ومربيهم ووالدهم، الذي فتح لهم قلبه قبل بيته، وأسدل عليهم حلمه وعطفه قبل علمه، ثم غاب عنهم غياب البدر يوم تمامه، وودعناه وهو في غاية ابتسامه، ونحسب أنها رضا من الله وعلو لمقامه، فرحمه الله وغفر له وجمعنا به وبوالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة.