لا يكاد يطرق سمعك اسم الشافعي حتى يدور في خلدك الذكاء والفطنة وقوة الحفظ وعمق الفقه، والشجاعة.. وغير ذلك مما اشتهر به هذا الإمام الفذ «محمد بن إدريس الشافعي» رحمه الله ورضي عنه، غير أن ما أريد تدوينه في هذا المقال شيء من شعره؛ لما امتاز به من السهولة والحكمة والتوجيه إلى الأخلاق الفاضلة فمن ذلك قوله:
الدَّهْرُ يَوْمَانِ ذا أَمْنٌ وَذَا خَطَرُ
وَالْعَيْشُ عَيْشَانِ ذَا صَفْوٌ وَذا كَدَرُ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفٌ
وَتَسْتَقِرُّ بأقْصى قَاعِهِ الدُّرَرُ
وَفِي السَّماءِ نُجُومٌ لا عِدَادَ لَهَا
وَلَيْسَ يُكْسَفُ إلاَّ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وكذلك قوله:
وتضيقُ دنيانـا فنَحسبُ أنّنا؛
سنموتُ يأساً أو نموتُ نحيبا
وإذا بلُطفِ الله يَهطلُ فجــأةً
يُرْبِي من اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا..
وقوله أيضًا:
قُل للذي مَلأ التشاؤمُ قلبَه
ومضى يُضيِّقُ حولنا الآفاقـا
سرُّ السعادةِ حسنُ ظنك بالذي
خلق الحياةَ وقسَّم.. الأرزاقا
ومن أقواله الجميلة التي لا تصدر إلا من حكيم، جرَّب الحياة وعرف كيف يحيى هادئًا مطمئنًّا:
المرء يُعرفُ فِي الأَنَامِ بِفِعْلِهِ
وَخَصَائِلُ المَرْءِ الكَرِيم كَأَصْلِهِ
اصْبِر عَلَى حُلْوِ الزَّمَانِ وَمُرّه
وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ..
لا تَسْتَغِيب فَتُسْتَغابُ، وَرُبّمَا
مَنْ قَال شَيْئاً، قِيْلَ فِيْه بِمِثْلِهِ
وَتَجَنَّبِ الفَحْشَاءَ لا تَنْطِقْ بِهَا
مَا دُمْتَ فِي جِدّ الكَلامِ وَهَزْلِهِ
وَإِذَا الصَّدِيْقُ أَسَى عَلَيْكَ بِجَهْلِهِ
فَاصْفَح لأَجْلِ الوُدِّ لَيْسَ لأَجْلِهِ،
كَمْ عَالمٍ مُتَفَضِّلٍ، قَدْ سَبّهُ.!
مَنْ لا يُسَاوِي غِرْزَةً فِي نَعْلِهِ!
البَحْرُ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفُ الفَلا..
وَالدُّرّ مَطْمُوْرٌ بِأَسْفَلِ رَمْلِهِ،
وَاعْجَبْ لِعُصْفُوْرٍ يُزَاحِمُ بَاشِقاً
إلاّ لِطَيْشَتِهِ.. وَخِفّةِ، عَقْلِهِ!
إِيّاكَ تَجْنِي سُكَّرًا مِنْ حَنْظَلٍ،
فالشَّيْءُ يَرْجِعُ بِالمَذَاقِ لأَصْلِهِ
فِي الجَوِّ مَكْتُوْبٌ عَلَى صُحُفِ الهَوَى
مَنْ يَعْمَلِ المَعْرُوْفَ يُجْزَ بِمِثْلِهِ
وكل شعر الشافعي يجري هذا المجرى من العذوبة والسهولة، حتى أصبح تراثه الشعري الذي خلفه من بعده يعد من أعظم وأجود وأجمل ما أنتجه الشعراء على مر العصور في الحكمة، لدرجة أنه يجري على ألسنة الناس جريان الحكم والأمثال، ولعل ما يزخر به شعره من أمثال سائرة وحكم مصوغة صياغة محكمة، وإبداع قل نظيره لخير دليل على ذلك، وهذا ما يتجلى بوضوح في الأبيات التالية:
يريد المرء أن يعطى منـاه
ويأبـى الله إلا مــا أرادا
يقول المرء فائدتي ومالـي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
ويقول:
ولرب نازلةٍ يضيق لها الفتى..
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها..
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
رحم الله الإمام الشافعي، فقد كان بحق كالشمس للدنيا وكالعافية للأبدان.