كامي كلوديل.. الفنانة والنحاتة الفرنسية الكبيرة، التي غيَّرت وجهة فن النحت، الذي لم يعد يعتمد على الضخامة والتماثيل الخارقة التي تحتل ساحات المدن الكبرى وحدائقها، ولكن على الأناقة والنعومة والأنوثة، والأشكال الصغيرة التي تسكن في عمق البيوت والأماكن الحميمية. غيَّرت، ليس فقط نظام النحت وأشكاله، ولكن أيضاً حركته وطريقة عرضه، والنظر إليه. لم يعد يُقاس بالضخامة، ولكن بإدهاشه فنياً. هذه الحساسية المفرطة عكست هشاشتها الإنسانية العميقة، وانتهت بها إلى الانكسار ودخول مستشفى الأمراض العقلية، في عالم ذكوري لم تكن به أية رحمة. حاولتْ أن تلبس ظل بروموثيوس وسرقت نار الفن لتزرع بعض الدفء في عيون الناس وفي قلوبهم، وفي التربة والصلصال الذي كانت تختاره بدقة لتصنع منه الحياة، لكن الثمن الذي دفعته كان ثقيلا وقاهرا.
برزت كامي كلوديل كعاملة ونحاتة مميزة في ورشة النحات الفرنسي والعالمي الكبير «غوستاف رودان»، الذي كان الوسط الفني الفرنسي ينظر له وكأنه فنان أوحد، كما زولا وبلزاك في الحقل الأدبي. واحد من الشخصيات التي تركت آثارها الكبيرة على العصر الكلاسيكي. كانت كامي كلوديل تنفذ سلسلة من أجزاء المنحوتات التي كان يطلبها منها رودان، بالمقاييس التي يمنحها لها، ويقوم رودان بتركيبها لاحقا. منحوتته المشهورة «القبلة» كانت فيها لمسة كامي واضحة وأساسية لدرجة أن النقاد يُؤكِّدون أن رودان سرق منها موهبتها، وهو ما ظلت تؤكده حتى وهي بمستشفى الأمراض العقلية. فكامي كلوديل، لم تكن فقط عاملة عادية، كانت فنانة موهوبة وعاشقة لرودان، حتى غطت عاطفياً على روز التي كانت بمثابة زوجته، إذ أنجب منها أطفاله. وعدها بالزواج، لكن روابطه مع روز كانت قوية، فانفصلت كامي عنه نهائيا، وهي في حالة كبيرة من اليأس والكآبة انتهت بها إلى مأساة الشيزوفرينيا. صاحبت رودان في كل أعماله الكبرى العظيمة. لكنها سرعان ما انفصلت عنه وبدأت تعمل لحسابها، بالخصوص بعد انهيار علاقتهما، كان عليها أن تبرز موهبتها ولا تبقى تابعة له. أرادت أن تسترجع أنوثتها المبثوثة في أعمال كثيرة لرودان، وتدرجها في جهودها مباشرة. كان رودان، كما تقول، يخطف منها الأنوار، ويسرق منها خصوصيتها وجهدها، وهو ما كان رودان ينكره دائما. صدمة إهمالها والتخلي عنها كانت حارقة. انكسر حلمها الكبير الذي لم يتحقق، وظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد استمع إليها. بل أنه حاصرها، فلم تعد تبيع أية قطعة فنية بسبب حصاره لها بالتأثير على المؤسسات الوطنية، الزبون الأساسي للفنانين. العكس هو الذي حدث. فقد اتفق رودان مع أم كامي كلويل وأخيها الشاعر والدبلوماسي، وأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، فمكثت هناك حتى الموت، بعد أن فشلت كل محاولات إنقاذها. فقد كان رودان السبب الرئيس الذي يتخفَّى وراء مأساتها التي لم تمنحها أية فرصة لاستعادة جهودها وموهبتها. لا شاهد اليوم على مأساتها إلا رسائلها التي كتبتها لعائلتها، أو للمسؤولين في الدولة المشرفين على الفن، الذين تواطؤا مع رودان وأغمضوا عيونهم على آلام كامي كلوديل. تشكَّت كثيراً من هذه الغطرسة والإهمال الإداريين، دون أن تتمكن من فرض رؤيتها واستمالة عطف الآخرين. كان لرودان سلطة اجتماعية وفنية من الصعب تخطيها. وكان وراء إفلاسها الفني، إذ توقفت نهائيا عن النحت، لأنها لم تعد تبيع شيئاً. فكان إفلاسها الفني مروعاً أثَّر عليها تأثيرا بليغا. حتى النخبة الثقافية القوية وقتها كانت عموماً بورجوازية وتقف بجانب مصالحها التي كان يُجسِّدها غوستاف رودان. لم يقف أي منهم مع الحق ضد الظلم. في الأخير، اعتبرت مجنونة، وانتهت في العصفورية. كانت النخب الثقافية مستسلمة لمنطق القوة والجبروت المجتمعي الذي لم يكن رودان إلا صورة معدودة له، ولم تفعل شيئا ينقذها. منحوتاتها القليلة المتبقية من رحلتها الفنية، ترفعها اليوم إلى أعلى المراتب الفنية.
«كامي كلوديل».. في مواجهة ذكورة الظلم
تاريخ النشر: 08 فبراير 2018 01:22 KSA
صدمة إهمالها والتخلي عنها كانت حارقة. انكسر حلمها الكبير الذي لم يتحقق، وظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد استمع إليها. بل أنه حاصرها، فلم تعد تبيع أية قطعة فنية بسبب حصاره لها بالتأثير على المؤسسات الوطنية
A A