هناك شخصيات تصنع التاريخ الإنساني في صمت، وبلا ضجيج، وقد لا ينتبه لها الكثيرون إلا عندما تغادر هذه الدنيا مخلفة وراءها ذاكرة حية بجهودها وأبحاثها.. ذلك هو الإنسان الكبير والاستثنائي الذي يتحرك في الوقت المناسب. هذا النوع من البشر أصبح نادرًا في زمن السرعة الذي نعيشه بشطط كبير.
يشكل الباحث الفرنسي الكبير برونو إيتيان أحد هؤلاء. فقد جمعته الظروف بالثقافة العربية والأمير عبدالقادر إلى درجة التماهي الكبير. فقد سخر حياته كلها في البحث عن التفاصيل الغائبة في رحلة الأمير عبدالقادر ومساره. خصص له العديد من المؤلفات التي فتحت أمام الباحثين مسالك عديدة لمعرفة عميقة للأمير، ووضع بين أيديهم وثائق لم يكن أحد يحلم بالوصول إليها، ورسائل أصبحت اليوم في متناول محبي الأمير عبدالقادر والثقافة الإسلامية بتنوعها. فقد جاب كل الأماكن التي سلكها الأمير من الجزائر، معسكر، وهران، دمشق، تركيا، القدس، والمواقع التي عبرها الأمير عندما كان سجينًا في فرنسا، لامالغ وأمبواز وتولون، كما التقى بعائلة هذا الأخير من الأحياء، حتى أصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. نشر عمله الضخم عن حياة الأمير عبدالقادر وسيرته، في بيروت وبعدها في الجزائر، وكتابه عن عبدالقادر مع فرانسوا بويون في السلسلة الفاخرة التي تصدرها غاليمار، دار النشر الفرنسية العريقة. آخر كتاب ألفه برينو إتيان قبل وفاته بقليل كان عن الأمير عبدالقادر، وهو واحد من الكتب المثيرة للأسئلة والجدل، يحمل عنوان: عبدالقادر والماسونية، متبوعًا بالصوفية والماسونية. ربما اختلفنا مع الباحث الكبير برينو إيتيان في الخلاصات التي توصل إليها من خلال تقصيه وبحثه وتأويلاته، ولكن الرجل كان عالمًا متتبعًا لأدق التفاصيل. لم يذكر في كتابه موقفًا عن الأمير لم يبرره بوثيقة أو برأي أو بوجهة نظر مؤسسة. الكتاب يعتمد بالدرجة الأولى على رسائل الماسونية ووثائقها السرية، وبعض رسائل الأمير عبدالقادر إلى محفل هنري الرابع وإجاباته عن أسئلة الانضمام التي قدمت له، ووثائق محفل الشرق الكبير الذي كان على علاقة وثيقة مع الأمير. ومحفل الأهرامات الذي كُلِّف بالإصغاء لإجابات الأمير التعليمية المتعلقة بالماسونية.
ولد برينو إيتيان في سنة 1938، وهو أحد مؤسسي مركز البحوث الإسلامية في فرنسا، ومؤسس مرصد الظاهرة الدينية في معهد الدراسات السياسية في 1992، في مدينة إيكس أوبروفانس. ويعتبر أول من أدرج الظاهرة الإسلامية في مراكز الأبحاث الفرنسية، منذ بداية الثمانينات، حيث لم تكن موضوعًا حيويًا للبحث السياسي. تعلم اللغة العربية بمعهد بورقيبة للغات بتونس، وهو أحد أهم أصدقاء العرب، إذ ساهم مباشرة بعد الاستقلال، في إعادة بناء المنظومة التربوية، وذلك من 1962- 1965، في العديد من بلدان المغرب العربي، بدون الحديث عن الزيارات المتكررة التي لم تنقطع أبدًا، مساهمًا أو مشاركًا في كل الفعاليات الخاصة بالأمير عبدالقادر وبتاريخه حتى وفاته. قبل أن يستقر في السبعينيات، لبضع سنوات في مراكش مدرسًا ومحاضرًا في جامعتها. عاد في الثمانينيات إلى فرنسا وأسس مركز أبحاث ودراسة المجتمعات الإسلامية. ودافع بقوة عن الإسلام في فرنسا، كجزء من النسيج المجتمعي الفرنسي وليس كعنصر دخيل عليه. فكان من أنصار تغيير قانون 1905 الخاص باللائكية، وطالب بضرورة إصلاحه بحسب معطيات الحاضر التي تجبر الجميع على احترام الأقليات المكونة للمجتمع الفرنسي، وإعطائها حق الوجود والتعبير. بموته المبكر، افتقدت الثقافة الإسلامية عمومًا، والعربية تحديدًا، صديقًا كبيرًا ومناصرًا مهمًا، قدم لتاريخها الثقافي الكثير وأناط اللثام عن الكثير من الوثائق.
التكريم الكبير الذي يمكن للعرب أن يقدموه له هو ترجمة وطباعة أعماله وأبحاثه عن الإسلام في أوروبا وعن الأمير عبدالقادر، يستفيد منها الباحثون والمهتمون بالشأن العربي، في ظل الصراعات الخطيرة الحالية والأحقاد المستشرية ضد الإسلام والمسلمين. ربما كان هذا أضعف ما يمكن أن يقدم لهذا الرجل الذي قد نختلف مع الكثير من تحليلاته، ولكن لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر جهوده العظيمة، وكشفه الكثير من مساحات الإسلام المتنور وحياة الأمير وعزلته وغيرها. برونو إيتيان لم يكن فقط صديقًا للمسلمين والعرب، لكنه كان أيضًا مساهمًا في بنائهم الثقافي وباحثًا في تاريخهم المنسي. وهو ما لم يفعله غيره من القريبين من هذه الثقافة. كان منخرطًا كليًا في الخيارات العربية الإسلامية من الموقع الثقافي وابتعد عن السياسة التي تسطح كل شيء وتشيع ما ليس صحيحًا عن العرب والمسلمين في أوروبا.
برونو إيتيان.. قوة الفعل الثقافي
تاريخ النشر: 22 مارس 2018 01:24 KSA
التكريم الكبير الذي يمكن للعرب أن يقدموه له هو ترجمة وطباعة أعماله وأبحاثه عن الإسلام في أوروبا وعن الأمير عبدالقادر، يستفيد منها الباحثون والمهتمون بالشأن العربي، في ظل الصراعات الخطيرة الحالية والأحقاد المستشرية ضد الإسلام والمسلمين.
A A