تظل الحالة النسائية في العالم العربي، حالة تراجيدية.. كانت المرأة في بدايات القرن العشرين فقط، بوابة الحديثة، تملك تصورًا محددًا لما يجب فعله، ورهاناتها كلها تتم داخل عصر متحرك منحها فرصة التثقف والعلم. على الرغم من أن هذا العصر لم يرتق في فكره وينظر لها كحالة ثقافية طبيعية لأن الذكاء ليس حكرًا على الذكورة. التخلص من المرأة المتعلمة والذكية لا يمكن فهمه إلا وفق منطق أنثروبولوجي وتاريخي.. منظور التخلص، عن وعي، أو عن تخلف متراكم مبطن، من حالة منافسة وحاضرة بقوة، يجب أن ينتهي وجودها لأنها ستعيد تركيب الأشياء ومنها إعادة النظر في سياقات استقرت حتى أصبحت حقيقة مطلقة، ومكسبًا خاصًا، وأحيانًا دينًا أو شبيهه في القداسة.. وهذا ما يقربنا من حالة ثورية مضادة للمعتاد واليقيني.. فتصبح الكتابة الروائية عنها ليست خيارًا فنيًا فقط، لكن ضرورة تاريخية.
المجتمع المتماوج الذي تعيش فيه هذه المرأة لا يدفع بها مطلقًا إلى الأمام.. بل يعمل أيضًا على جرها إلى الوراء.. أصبح التخييل الروائي وسيلة لافتراض ما لم يعد اليوم موجودًا.. لم يعد شارعنا يدهش بعودته إلى الماضي القاسي على المرأة بالخصوص.. لم يعد شارعًا مفرحًا وملونًا.. أصبح شبيهًا بالغابة.. حتى المعاكسات التي كانت تتم بلغة لطيفة لا اعتداء فيها، أصبح قاموسها عدوانيًا وشديد البذاءة.
فكرة من كل بستان زهرة، أي نظرية الاحتفاظ بالماضي دون إخضاعه للمنظور النقدي، لم تعد مفيدة ولا مغذية للإبداع.. للماضي قيمة يجب أن تحمل معنى الحياة والاستمرار. الحداثة خيار لا يقبل القسمة: النقد والقطيعة، وإلا سيظل الإنسان يدور في حلقة واحدة لا تفضي إلا إلى الفراغ.
أوروبا في مشروعها الحداثي وتبعتها آسيا، حتى آسيا الإسلامية، وبعض دول إفريقيا، لم يكن أمامها إلا خيار: القبول بكل الكسورات وتحديد الخيارات نهائيًا والعمل عليها لتطويرها وتحرير العقل.. تحرير المرأة هو تحرير العقل أولاً.. قد يبدو الأمر سهلاً لغويًا، لكنه أعمق، وربما أخطر لأنه قد تنجم عنه حروب أهلية قاسية. لكن الذي نعيشه اليوم عربيًا من حروب مفجعة ليس إلا صدى لإخفاقات هذه الحداثة التي لم تصنع خصوصيتها العربية. الغريب أن الكثير من الدول الإسلامية بالخصوص في آسيا عرفت مسلكًا غير مسلك الدول العربية الإسلامية، وخطت خطوات في صلب الحداثة والحكامة مما دفع بها إلى مواجهة الحداثة بقوة والخروج، في الكثير من نماذجها، من دائرة التخلف حتى أنها أصبحت مساهِمة في الحضارة العالمية.
إذن الإسلام ليس مناهضًا للحداثة في جوهره، ربما كان الخلل في موقعته الدين اجتماعيًا، ونظمنا العربية التي هي خليط من القدامة المتحجرة والأحلام المهزومة، وتأويل الدين وفق الحاجة، ووفق كل ما يرجع المجتمعات العربية خطوات إلى الوراء.. نسعد كثيرًا بأن عدد المثقفات كبر، واتسعت قاعدته، وأن التعليم أصبح إجباريًا على الكل وشمل عمومًا الجميع، ذكورًا وإناثًا
. وهو ما ناضلت الأجيال من أجله لدرجة أن جلب لها ذلك الكثير من العداوات، من بعض المؤسسات الدينية المتحجرة أو الاجتماعية، فاتهمت بتغريب المجتمع العربي عن دينه وتاريخه. لكن هذا التعليم المعمم للمرأة لم يفد كثيرًا في تغيير الأوضاع الاجتماعية. سنكتشف بسرعة أننا أمام مجتمع يعيش حالة انفصام حقيقية. كل المنجزات تظل وظيفية ولا تعمل فينا أي شيء، لأنها تظل قيمًا منفصلة غير فاعلة فينا. أسعد بالحياة بسبب مكاسب التحديث، لكن كلما تعلق الأمر بزوجتي أو ابنتي أو دائرتي النسائية، سأصبح أكثر تخلفًا مليئًا بالشكوك، وأعيد إلى الواجهة الأفكار التي يفترض أنها انتهت كفاعلية. مع الزمن أصبحت الشيزوفرينيا حالة عادية.. غير مزعجة.. فأنا الاثنان معًا.. أكون أنا الحداثة عندما أجدني في سياقها وأفيد منها.. أنا القدامة المغلقة عندما أجدني فيها بحسب الحاجة.. فيّ المفتي المغلق والرجل المتحرر.. يلتقيان عن بعد.. يريان بعضهما لكن لكل واحد ظرفيته فلا اصطدام.. وهذا أخطر شيء لأنه يعطي للإنسان راحة لا تجعله يتقدم لأنه لا يعيد النظر في نفسه.
كيف يكتب الروائي العربي، المرأة في هذا الوضع، هل بصدق الشيزوفرينيا المستبدة والقاهرة للمرأة، أم برؤية حلم مستقبلي يِعدُ بوضع آخر للمرأة في الحياة والكتابة؟ هل تستطيع الكتابة اختراق غشاوة ما يرتسم من خوف في الأفق؟ سؤال كبير يجيب عنه، أو يحاول، المتن الروائي العربي غير المتفائل في كليته.
المرأة في شيزوفرينيا.. الكتابة والواقع
تاريخ النشر: 29 مارس 2018 01:25 KSA
إذن الإسلام ليس مناهضًا للحداثة في جوهره، ربما كان الخلل في موقعته الدين اجتماعيًا، ونظمنا العربية التي هي خليط من القدامة المتحجرة والأحلام المهزومة، وتأويل الدين وفق الحاجة، ووفق كل ما يرجع المجتمعات العربية خطوات إلى الوراء.. نسعد كثيرًا بأن عدد المثقفات كبر، واتسعت قاعدته، وأن التعليم أصبح إجباريًا على الكل وشمل عمومًا الجميع، ذكورًا وإناثًا.
A A