يُعَدُّ الأَدَب السَّاخِر مِن الآدَاب الكَونيَّة؛ التي تَحتَفل بِهَا الشّعوب، وتَتقبَّلها قبُولاً حَسناً، لِمَا لهَذَا الأَدَب مِن إصلَاحٍ فِي المُجتَمع، وإدخَالٍ للسّرُور عَلَى النَّفس، عَبر الكَلِمَة السَّاخِرَة، والمُفْرَدَة اللَّاذِعَة السَّاحِرَة..!
ودَائِماً فِي قَضيَّة الأَدَب السَّاخِر، تُطرَح قَضيّة "اللُّغَة البَذيئَة"، ونَعنِي بِهَا، استخدَام الكَلِمَات الخَاصَّة بالأَعضَاء التَّناسليَّة، أَو فَضَلَات الطَّعام.. ونَحو ذَلك، فِي كِتَابَات السَّاخِرين.. لَكن "ابن قتيبة" كَان مِن المُدَافعين عَن الكِتَابَات السَّاخِرَة، حَيثُ استَهجَن التَّزمُّت الذي تُقابَل بِهِ كِتَابَاتهم، قَائِلاً: (إِنَّ العَيب لَيس فِي ذِكر هَذه الأَعضَاء، التي ذُكِر بَعضهَا فِي القُرآن الكَريم، وإنَّما فِي أَكْل حقُوق النَّاس، والكذب عَليهم)..!
إنَّ المُجتمعَات الرَّديئَة هي التي تُغيِّر سلّم الفَضَائِل، حَيثُ تَنتَقد البَسيط التَّافه، وتَترُك الخَطَأ الكَبير الفَادِح، ولَعلَّ التَّشدُّد فِي قبُول الأَدَب السَّاخِر؛ ومَا يُصَاحبه مِن لُغةٍ لَاذِعَة، هو مِن قبيل المُزايدَات عَلَى الفَضَائِل، والتَّزمُّت الذي لَا مُبرِّر لَه..!
إنَّ المُجتمعَات المُتقدِّمَة لَا تُمارس الكَبت عَلَى الكَلِمَات، ولَا تُكثر سِيَاج التَّضييق عَلَى النَّاس؛ فِي الكِتَابَات والأَقوَال، بشَرط أَنْ يَكون هَذا وِفق القَوَاعِد والأَعرَاف، والقَوَانين التي ارتضَاهَا أَهل البَلَد، وسَنَّها رِجَاله، لأنَّ كَثرة الكَبت تُؤدِّي إلَى الانفِجَار، ولقَد أَوضَح هَذه القَضيَّة الشَّاعِر البَاكستَاني "محمد إقبال" -رَحمه الله- فِي أَبيَاتٍ تَفيض رِقَّة وعذُوبَة، شَارِحاً فِيهَا مُعَانَاته مَع الكَبت، حَيثُ يَقول:
قِيثَارَتِي مُلِئَتْ بِأَنَّاتِ الجَوَى
لاَ بُدَّ لِلْمَكْبُوتِ مِنْ فَيَضَانِ
صَعَدَتْ إِلَى شَفَتِي خَوَاطِرُ مُهْجَتِي
لِيُبِينَ عَنْهَا مَنْطِقِي وَلِسَانِي
أَنَا مَا تَعَدَّيْتُ القَنَاعَةَ وَالرِّضَا
لَكِنَّهَا هِيَ قِصَّةُ الأَشْجَانِ
يَشْكُو لَكَ اللّهُمَّ قَلْبٌ لَمْ يَعِشْ
إِلاّ لِحَمْدِ عُلاَكَ فِي الأَكْوَانِ!!
حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!
بَقي تَذكير القُرَّاء والقَارِئَات؛ بأنَّ الحَيَاة تَحتَاج إِلَى التَّسَامُح، ولَابُدَّ مِن قبُول بَعض القَول القَاسي، وبَعض المزَاح، الذي يَرتَقي لدَرجة السُّخريَة، ويُعَالِج القَضَايَا التي تَستَحقُ العِلَاج..!!