في زيارته الأولى لمدريد، شاهد معي صديقي الياباني على شاشة التلفزيون ما حلَّ ببعض البلدان العربيَّة، في بلاد الشام خاصَّة، التي قطَّع الاستعمار والانتداب بسياسة «فرِّق تسد» أوصالها. وكيف أنَّ دولة عظمى تمارس العنف والقتل والدمار، تؤازرها دولة أخرى مجاورة موَّلت لصالحها ميليشيات مؤتمرة بأمرها.
يقول الصديق الياباني بأنَّ تلك المشاهد أعادت لذاكرته ما حلَّ بمدينته هيروشيما من دمار، وفقد لغالبيَّة سكَّانها إبَّان تعرُّضها من دولة عظمى للقصف الذري في الثامن من أغسطس 1945. يضيف الصديق بأنَّه كان آنذاك في السابعة من عمره. وقد هاله تحوُّل مدينته إلى كتلة من اللهب الحارق، أتى على كلِّ ما كان قائمًا فيها، وما تزال في ذاكرته تلك المشاهد التي خال معها أنَّ القيامة قد قامت فعلًا، ولا حياة في هذه الدنيا بعد ذلك اللهيب والدمار. لكن ما أن انجلى الدمار عمَّا كان عليه في ذلك اليوم الرهيب، حتَّى أدرك أنَّ الدنيا لا تزال باقية.. لاسيَّما بمشاهدته سواعد من بقوا من أهالي مدينته على قيد الحياة، وهم يزيلون آثار الدمار. وقد صمَّموا على إعادة الحياة إلى هيروشيما.. لتولد مدينتهم من جديد بصورة أفضل ممَّا كانت عليه.
وبهذا يقول بثقة الواثق: لقد رددنا الصاع لمن هدم مدننا ومصانعنا ومزارعنا صاعين في أرجاء اليابان كافَّة، ويؤكِّد الصديق أنَّ بني قومه اعتمدوا في إزالتهم آثار العدوان وإعادة البناء على العلم وطلابه، وقد كان لنا ما رغبنا فيه. حيث تفوَّقنا صناعيًّا وعلميًّا، وبلغنا مكانة مرموقة بين دول العالم. وأقمنا في أوربَّا والولايات المتَّحدة مصانع لنا يعمل فيها شبابهم. وكما تقولون في تراثكم: ربَّ ضارة نافعة! ولابدَّ من وقتٍ قريب قادم، يحلُّ في بلدان مشرقكم العربيِّ المنكوبة العلم والمعرفة محلَّ المقاومة المسلحة غير المتكافئة لإعادة بناء ما دمَّرته الحرب الأهليَّة بين نظام متشبِّث بالحكم، تعينه على البقاء فيه قوى أجنبيَّة طامعة في ثروات بلدانكم، والتمركز المسلَّح فوق أراضيكم لموقعها الاستراتيجي. وبين شعب طالب بتداول السلطة، فأجابه الحاكم بالقتل والتهجير، وخطَّط لهروب ثلثيِّ مواطنيه إلى أرجاء المعمورة لاجئين يبحثون عن لقمة عيش لهم ولأطفالهم.
ختم الصديق حديثه بالقول: إنَّ بلده والمشرق العربي، يدان للقارَّة الآسيويَّة؛ أمِّ الحضارات. فعلى اليدين أن يشدَّا على بعضهما كي يستفيد كلٌّ منهما من خبرة الآخر في إزالة آثار العدوان وإعادة البناء والتسلُّح بالإيمان وبالعلم للنهوض مجدَّدًا من عاديات الزمن.
وقد ثمَّن عاليًا تبُّوؤ بلدنا المملكة العربيَّة السعوديَّة لمركزها القيادي على مستواها العربي والإقليمي والعالمي، بَدءًا بإعادة هيكلة البيت الداخلي بعد مرور مئة عام على تشييده، ليُواكب تحديثه متطلَّبات العصر ومسيرة التقدُّم والعطاء. وليسهم في فكِّ أسر بيت المقدس وقيام الدولة الفلسطينيَّة، وتخليص الدول الشقيقة المجاورة من الفوضى الهدَّامة ومن التدخُّل العسكري الأجنبي المروِّع.