الإنسان يُحبّ التميُّز، وقد جُبِلَ عَليهِ، وهَذا مِن حَقِّه، بَل مِن أَبسَط حقُوقهِ، ولَكن الجَدَل -كُلّ الجَدَل- حَول قِيمة هَذا التَّميُّز، هَل هو يَدلُّ عَلَى مَوهِبَة وإتقان؟، أَم يَدلُّ عَلَى تَعقيدَات فِي النَّفس، واشترَاطَات فِي الحَيَاة، تُتعب الإنسَان، وتُزيد مِن همُومه..؟!
فِي كُتب التُّراث يُقَال: إنَّ أَحَد الأَعرَاب ذَهَبَ إلَى الحَج، وأَرَاد أَنْ يَتميَّز عَن النَّاس عِند الجَمرَات، فـ»خَلعَ حِذَاءهِ وضَرب بِهِ إِبلِيس، بَعد أَنْ كَال لَه الشَّتَائِم مِن كُلِّ صَنفٍ ولَون»، وعِندَمَا سُئِلَ: لِمَاذَا فَعلتَ هَذَا؟، قَال: لكَي أَتميَّز عَن النَّاس فِي إهَانة الشَّيطَان..!
إنَّني أُشَاهِد قصّة هَذَا الأَعرَابي؛ فِي تَصرُّفَات كَثير مِن النَّاس.. ففِي الفَرع النِّسَائِي، تَجد بَعضهنّ لَا تَتميَّز بإجَادة مَوهبَة أَو إتقَان مِهنَة، بَل هِي تُحاول أَنْ تَتميَّز بتَصرُّفاتٍ؛ تَدلُّ عَلَى حُبِّهَا لتَعقيدَات الحَيَاة، ومُحَاولة زِيَادة صعُوبَاتهَا، وهي تَفعَل كُلّ ذَلك مِن بَاب حُبّ التَّميُّز.. خُذ مَثلاً: إحدَاهنَّ تَقول لَك: إنَّ صَبَاحهَا لَا يَحلو إلَّا بارتشَاف القَهوَة «المَزبوطَة»، وتعدُّ شُرب القَهوَة صَبَاحاً مِن مَزَايَاها. أَمَّا الأُخرَى فتَقول: يَا «أَحمَد» خُذهَا قَاعدَة، أَنَا لَا يُمكن أَنْ أَركب الطَّائِرَة؛ إلَّا فِي الدَّرجَة الأُولَى، وتَعتَبر هَذا التَّعقيد والإرهَاق المَالِي، جُزءاً مِن تَميُّزها و»برستيجهَا». وثَالثتهنّ تَقول: أَنَا لَا أَخرج فِي النَّهَار، وتَعتبر ذَلك مِن فَضَائِلهَا..!
أَمَّا الفَرع الرِّجَالي، فتَجد مِنهم مَن لَا يقل سوءاً عَن النِّسَاء فِي مُحَاولة التَّميُّز، وإظهَار اختلَافهم عَن النَّاس، مِن خِلال حَركَات لَا تَدلُّ عَلَى المَوهبَة والإتقَان، بَل تَدلُّ عَلى الشّذُوذ، الذي لَا يُضيف للمَعرفَة أَي قِيمَة، فمَثلاً يَقول لِي أَحدُهم: خُذهَا قَاعدة، أَنَا لَا أُسَافر فِي رَمضَان، أَمَّا الآخَر فيَقول: أَنَا لَا أَقرَأ الجَرَائِد، وثَالثهم يَقول: أَنَا لَا آكُل السَّمَك إلَّا يَوم الجُمعَة..!
كَمَا أَنَّ بَعض المُثقَّفين يُمَارسون -أَيضاً- نَفس الحَمَاقَات، مِن خِلال مَنح أَنفسهم تَميُّزاً بَاهِتاً، لَا يُعطي أَي قِيمَة للعَمَل الإبدَاعي، فمَثلاً يَقول أَحَد المُثقَّفين: أَنَا لَا أَكتُب إلَّا بقَلم رصَاص، ويَقول آخَر: لَا يُمكن أَنْ أَقرَأ إلَّا وصَوت فيروز يُشكِّل خَلفيَّة للمَكَان؛ الذي أَقرَأ فِيهِ، وثَالثهم يَقول: يَا «أحمد» خُذهَا قَاعدة، أَنَا لَا أَكتُب إلَّا إذَا استَعنتُ بفِنجَان قَهوَة، يُسَاعِد عَلَى تَوليد الإبدَاع..!
حَسنًا.. ماذا بقي؟!
بَقي القَول: أَيُّهَا النَّاس -كَمَا تُشَاهدون- كُلّ مُحَاولات التَّميُّز هَذه بَاهِتَة، لَا تَخدم الفِكر ولَا المَعرفَة، وكَم كُنتُ أَتمنَّى أَنْ تَتميَّز المَرأَة -أَي امرَأَة- وتَقول: أَنَا ابتَكرتُ أَحمَر شفَاه مُريح وعُضوي، أَي مَصنُوع مِن الأَعشَاب، أَو تَقول: أَنَا اختَرعتُ جِهَازاً يُبيِّن عَدَد سَاعَات نَوم الطِّفل.. أَمَّا الرِّجَال، فلَيتهم يَتميَّزون باكتشَاف نَظريَّة، أَو باخترَاع مُنتَج يَخدمهم ويَخدم البَشريَّة جَمْعَاء..!!