إن حديث سيِّدي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، إنما هو إرشاد إلى أن الإنسان إذا أراد احتراف عمل فليتقنه، وإتقانه إنما يتم بالعلم به، فلا يدّعي إنسان اتقان شيء وهو لم يتعلمه أصلاً، فإن يتخصص الإنسان في العمل الذي يزمع احترافه؛ فإنه الواجب، فإحسان العمل لا يتم إلا بالعلم به، والعمل به لا يتحصل إلا بالتخصص فيه، وفي عالمنا اليوم التخصص مطلوب في كل عمل يتولاه الإنسان، وإهمال الناس أن يتخصصوا فيما عزموا احترافه، كعمل أو مهنة وحرفة، نقص فيهم يجب تداركه، وفي عصرنا لا يُقبل من أحد أن يتولى علماً يُلقّنه للناس ولم يتخصص فيه، ولا عملاً إلا إذا تعلَّمه وأحسن التخصص فيه، ولعلَّ من تصدَّى لعلمٍ أو عمل وهو جاهل به، يُعرِّض نفسه للمساءلة القانونية، فمَن يدّعي الطب مثلاً، ويفتح له عيادة يُمارس فيها علاج المرضى، يُعرِّض نفسه لمساءلة قانونية تؤدي إلى عقوبة شديدة عليه، لهذا يحرص الناس اليوم ألا يتعرَّضوا لعملٍ لا اختصاص لهم فيه، خشية أن يُحاسبوا ثم يُعاقبوا، ولكن الناس غالبهم اليوم -وخاصة مَن أمسكوا بالأقلام أو سمّوا أنفسهم مفكرين، أو بالغ الناس فصنّفوهم أعلاماً في الفكر والثقافة- أطلقوا لأنفسهم العنان، فأفتوا في كل شيء لهم علم فيه، أم كانوا به جاهلين. فنسمع لرجل يحل ويحرم على الناس ما شاء، فنسأل عن تخصصه، فيُقال لنا إنه مهندس مدني أو ميكانيكي، فنقول هل أخذ علماً عن عالم يَنسب إليه ما يقول؟.. فيقولون لنا إنه لم يكن حريصاً -في يوم من الأيام- على مجالسة العلماء، بل إنّا لنعرف من الناس من لا علاقة له أصلاً بدين، وهو اليوم يكتب في نقد العلماء، ويتجنّى عليهم بما لم يقولوا، سواء أكانوا من الأقدمين أو المحدثين، وما يدعوه لذلك سوى الهوى، وإذا اعترضت على ما يقول هؤلاء قالوا لك بملء الفم: إنه لا علم في الدين يُتخصّص فيه، وأن المسلمين كافة لهم النظر في الدين والاجتهاد فيه، يُقدِّمون للناس جهلهم بهذا الدين وعلومه دون خوفٍ من الله أو الناس، ذلك أنهم وجدوا من أمثالهم ممَّن يجهلون الدين وأحكامه مُشجِّعين لهم، يخلعون لهم من الأوصاف ما يرفعهم فوق العلماء والصالحين، وهم لا يعلمون أنه لا يخشى الله عز وجل سوى العلماء، وهم حتماً لا يخشونه ولا يخافونه، فليس بينهم وبين العلم صلة.