في ربع صفحة من الجريدة، مضى المشهد على النحو التالي: الباحث الليبي عاشور الشامس يقول: «ليس هناك قوة واحدة يمكن أن تسيطر على ليبيا كلها، السلطة مُوزَّعة بين قوى مسلَّحة وسياسية متنافسة، لكن لا أحد لديه القوة الكافية كي يحكم وحده».
بل إن إعلان حسم معركة بنغازي لا يعني انتهاء المعركة بين حفتر وخصومه!
هذا عن ليبيا التي احتفى ممثلو مصراتة وتاورغاء فيها بتوقيع اتفاقية لعودة النازحين لمنازلهم! ليبيا الفريقين والجيشين والمجلسين الاستشاريين والحكومتين، المعترف بها دوليا وغير المعترف بها!
في الربع صفحة، كانت حركة الشباب الصومالي تستعيد بلدة دخلها الجيش! وكأن شباب الحركة غير شباب الصومال، وكأن الجيش الذي دخل القرية جيش إثيوبيا مثلاً، أو أي جيش أجنبي آخر!
هذا عن الصومال التي ما سكت الرصاص فيها على مدى ربع قرن، بين جيش وجيش، وإقليم وآخر، ومدينة وأخرى، وقرية وأخرى، وشباب وآخرين.. وقال حسن نور أحد شيوخ القبائل: بعد ساعة من القتال غادرت القوات الحكومية، وسيطرت الحركة!
فإذا أضفت إلى ذلك، الاشتباكات العنيفة التي تجددت بين قوات تابعة لـ«بونت لاند» في شمال شرقي البلاد، وقوات تابعة لـ»أرض الصومال» حول إقليم «سول» المتنازع عليه، ربما بكيت ألماً لما يجري لرمانة الميزان الإفريقي بالنسبة للعرب!
في الربع صفحة، كان مجلس الأمن يسحب أو يُهدِّد بسحب بعثة القوات الأممية والإفريقية من دارفور السودان! وكانت مجموعة «الديمقراطية أولا» تُؤكِّد أن هذا التوجه يُهدِّد حياة ملايين المدنيين، بسبب المواجهات بين القوات الحكومية ومتمردي حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور.. تحريرها ممن؟!
وفي السودان أو في جنوبه الذي هو دولة الآن، كان الحديث عن الاجتماع المرتقب بين سلفا كير وريك مشار! وكان الرئيس البشير يُعرب عن استعداده للتوسُّط بين الطرفين! وكان مجلس الأمن يتبنَّى مشروع قرار يُحدِّد للأطراف المتحاربة في دولة جنوب السودان مهلة تنتهي في 30 يونيو الجاري، لإنهاء الاقتتال أو مواجهة عقوبات محتملة!
هذا ما كان في الربع صفحة، أما الثلاثة أرباع الأخرى من الصفحة، فضلا عما بقي من صفحات السياسة، فكان الحديث الطويل عن مأساة سوريا والنازحين السوريين، ومأساة اليمن والنازحين اليمنيين، ومأساة العراق، والنازحين العائدين.. لذلك كله وأكثر منه، تراجع الحديث عن النازحين الفلسطينيين أساس الأزمة الكبرى في العالم العربي والإسلامي.. لذلك كله وأكثر منه، يتراجع حماس العرب والمسلمين في الدفاع عن الأقصى الذي تُنتهك حرمته، وعن القدس التي تضيع!
هل يصبح من السذاجة أن أسأل كل المتصارعين في الربع صفحة وفي ربع العالم تقريباً عن صحوة الضمير، ووضوح الرؤية، وحقيقة المعرفة، ويقظة الخيال؟!
وهل يصبح من المبالغة أن أقول: إن زعماء ومسؤولي تلك الدول السابقين رغم جبروتهم وطغيانهم، كانوا أكثر وعياً من تلك القيادات الجديدة المتمرِّدة على نفسها وأوطانها؟! أم أن إمبراطورية الشر الأصلية القديمة هي التي تركت مخالبها وأنيابها الدامية، تعمل عملها، بحيث تدفع الشعوب التي استعمرتها قديمًا وحديثًا للتقاتل والاضطراب والغرق في مستنقعات الدم والخراب، وكأن الشر الذي غرست بذوره قديمًا يتولى الآن الحكم والتحكُّم بجبروته المقيت نيابة عنها؟!