على الرغم من أن المملكة المتحدة البريطانية قدمت خدمات جُلّى لليهود، وأفسحت المجال أمام الفكر الصهيوني، والذي تغلغل في وسائل الإعلام الغربية؛ وعلى الرغم من أن بريطانيا هي التي نادت بما عرف بـ»وعد بلفور Balfour eclaration
»، نسبة إلى وزير الخارجية آنذاك في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي آرثر جيمس بلفور. وعلى الرغم من أن بريطانيا أيضًا سعت إلى الخروج من أرض فلسطين العربية المسلمة وسلمتها للعصابات الإرهابية آنذاك، مثل شتيرن وهاغانا، فإن تلك العصابات قابلت ذلك السخاء الإنجليزي بالجحود والنكران، وذلك عندما رغبت هذه العصابات في التعجيل بالخروج البريطاني من فلسطين؛ حيث أقدمت على عملية إرهابية وذلك في 22 يوليو 1946م، وعرفت باسم عملية «فندق الملك داوود». وكان الفندق يمثّل قاعدة عسكرية لدولة الاحتلال البريطاني، وقتل في ذلك الهجوم الإرهابي ما يقرب من (100) شخص، بينهم أصحاب رتب عسكرية عالية في الجيش البريطاني، وبعض العرب والأجناس الأخرى.
وفي سنة 1948م قامت حكومة العمّال، بزعامة كليمنت أتلي Clement Attlee بالخروج من فلسطين وتسليمها لغير أهلها. وظلت هذه الحادثة ماثلة في أذهان البريطانيين، الذين اكتووا بنار الإرهاب اليهودي والصهيوني، الذي ما زال العرب يوميًّا يواجهونه من الجيش الإسرائيلي المحتل. ولم يستطع أحد كسر هذه الفجوة؛ إلا عندما صعدت مارغريت تاتشر Margaret Thatcher إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا، وذلك في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات الميلادية؛ حيث قامت بزيارة الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين في سنة 1984م، وكان دافعها بداية هو الإعجاب بالفكر الصهيوني، إضافةً إلى أنها كانت تمثّل في البرلمان دائرة فينشلي المعروفة بالأغلبية اليهودية. وعلى الرغم من نصيحة مكتب وزير الشؤون الخارجية بعدم القيام بتلك الزيارة؛ لأنه كان في رأيهم آنذاك أنها ستضر بالمصالح البريطانية العربية؛ فإن الإعجاب الديني والفكري والشخصي بإسرائيل هو الذي دفع تاتشر لفتح الباب ولو قليلًا أمام علاقات مقبولة بين البلدين.
وظلت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية Elizabeth Alexandra Mary بعيدة عن هذا الصخب، وهي تعلم أكثر مما تتحدث؛ حيث شنّ اللوبي الصهيوني على عمها شقيق والدها الملك جورج، الذي سبق والدها في الحكم، وتنازل عن العرش لزواجه من امرأة كاثوليكية مطلقة؛ الأمر الذي يتعارض مع التقاليد البريطانية العريقة؛ حيث اتهم الملك جورج من قبل اللوبي الصهيوني بأنه كان على صلة ببعض رموز الحزب النازي، ولم ينتهِ هذا الصخب حتى حفلت وسائل الإعلام بهجوم وابتزاز جديد، تمثل في مهاجمة أميرة مقاطعة «كنت» وهي أيضًا كاثوليكية المعتقد، ألمانية الجذور، ومعروف العداء الشديد بين الكاثوليكية المسيحية والصهيونية، فقد كشفت بعض وسائل الإعلام عمّا سمته بتعاطف والدها، الذي رحل منذ عقود طويلة، مع النازية، وخرجت الأميرة تنتحب أمام الناس وتنفي ذلك جملة وتفصيلًا، إلا أن ذلك لم يشفع لها؛ حيث واصلت الحملة الهجوم عليها بضراوة، واتخذت طابعًا شخصيًّا بمحاولة الفصل بينها وبين زوجها أمير «كنت» آنذاك، مستخدمة في ذلك أسلوبًا وضيعًا وخسيسًا بالإيحاء أن الأميرة على علاقات غرامية خارج إطار الزوجية.
إن زيارة الأمير ويليام Prince William الأخيرة للأراضي المحتلة، والأردن وإسرائيل، لا يمكن فصله عن الموقف الرسمي للحكومة البريطانية؛ كون برنامج الزيارة في الأصل تصوغه الحكومة وتحدد معالمهم وترسم أجنداته، بما يمثل وجهة نظرها في كل ما تخرج به الزيارة؛ لهذا جعل زيارة القدس الشرقية كجزء من الأراضي المحتلة، وهو الموقف الذي اتخذته الحكومة البريطانية عندما لم تساير الجموح الأمريكي في خطوته الرعناء بتسمية القدس عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب، بل إن القبح وصل بالموقف الإسرائيلي حدًّا بعيدًا تجاوز كل الأعراف المرعية، عندما قام عمدة القدس المدعو نير بركات Nir Barkat برفض حضور حفل العشاء الذي أقيم في السفارة البريطانية بتل أبيب، ولعل من صلفه أنه كان يتطلع إلى إقامة الحفل في مقر إقامته؛ ولكن الدهاء البريطاني، وحكمة الملكة وحفيدها فوّتت على العمدة وأمثاله هذه الفرصة، ولا أظن أن الأحزاب الأخرى في بريطانيا تختلف عن حزب المحافظين الحاكم في اعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة بإذن الله.
إن هذه الزيارة كشفت عن رجاحة عقل الأمير ويليام، موروثة من والده ولي العهد الأمير تشارلز، الذي يعرف بانفتاحه الذهني، وإعجابه بالحضارة الإسلامية والعربية، وكما آمل أن تستفيد الدوائر العربية من هذا الموقف الناصع للحكومة البريطانية، وتستثمره لخدمة القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
الأمير ويليام يخيب آمال اليمين الإسرائيلي!
تاريخ النشر: 03 يوليو 2018 01:30 KSA
زاوية فكرية
A A