كانت ظهيرةً ساخنة تليق بجدة.. بصيفها.. وببحرِها الدافئ الذي يمتد خلف كوبري الميناء كحضن مرضعة عطوف.. كنتُ متجهاً لمنزلي بعد يوم عمل نصف شاق.. ونصف ممل.
لا أعلم لماذا قررت فتح مسجل السيارة، ليقفز لي -مثل قطٍّ متوجس- صوتُ خالد عبدالرحمن، وهو يغني:
أهلاً هلا بك.. يا بعد كل من لي
يا أغلى من الغالي يا روح روحي
يفز لك قلبي وأرحّب وأهلّي
تطيب في قربك جميع الجروحِ
حملتني الأغنية بعيداً إلى بداية التسعينات الميلادية حين حط صوت خالد وأغنياته على جيلنا المتردد بين زمانين. عدتُ -بسبب خالد- لتلك الأيام وما واكبها من ذكريات وأمنيات؛ عدتُ لحرب الخليج، للكويت، إذ أصبحتْ مفردةً دارجة في معجمنا اليومي، للكويت التي أضحت فرداً يشاركنا سفرتنا اليومية حينها.. وعدتُ للكرسيدا (القراندي) ومنافستها الشرسة للميتين إل (نيسان)، ولمحمد صادق دياب وملحق الأربعاء.. ولخالد مسعد والثنيان وماجد.
كانت التسعينات لمن عاشها زمناً مختلفاً عن أزمان البشرية الفانية... كنا نظنها هكذا.. حين استقبلناها استقبال الفاتح الجديد.. الأمل الجديد.. والعشق الجديد. لكنها -بطبيعة الحال- لم تكن كذلك: مارس صدام هوايته في تخريب اللعب.. ودخل العالم العربي في مرحلة شك غير معهودة، وجاء خالد عبدالرحمن بحزنه وشجنه المرير.
وقبل أن تقفز -عزيزي القارئ- لاستنتاجاتٍ متعجلة.. لا بد أن أخبرك أني لا أرى أن خالد من الفنانين العظماء.. ولا من أنصاف العظماء.. ولا من أرباعهم كذلك.. لكنه رغم كل ذلك نجح في اختطافي واختطاف جيل كامل من الشباب والشابات ليشكّل لنا ذاكرةً مختصرةً للحزن.. للكلمة الشجية واللحن الباكي. أصبحنا ننتظر معه كل موعد جديد لطرح ألبوم... كما انتظرنا طلال بشغف، وعبادي بلهفة.. وفتى رحيمة وهو يصرخ مسجوناً بين ضلوعنا:
كل ما جيت أسامح وأتناسى خطاك
صاحت جروح قلبي.. القصاص القصاص!!
أتذكر مساءً ثلجياً في شمال إنجلترا.. كنتُ مع الدكتور رائد الهذلول.. هاربيْن من شيء ما لست أتذكره تماماً، لعل له علاقة بالبحث.. بالتحليل.. وبمنهج الرسالة. جلسنا في ركن مقهى منزوٍ كأغنيةٍ منسية.. لا أعلم من بدأ الحديث عن خالد.. وعن التسعينات.. واختلفنا حول «أول ألبوم»:
قال: خذني بقايا جروح.
قلت: بل ألبوم انتظرته.. ومنه أغنية (أهلاً هلا بك)..
ثم بعد جدل أشبه بصراع عاشقيْن في حلم لذيذ.. تذكرنا أن ألبوم (صارحيني).. قد سبقهما بعامين أو ثلاثة.. حين كنا نتجهز ونرتدي ما يليق بأحلامنا للتسعينات الميلادية، أطل علينا خالد:
صارحيني.. من هو آنا بدنيتك!!
جاوبيني.. إن كنت فعلاً منيتك..!!
كانت ليلتي -وليلة رائد- زمناً خارج الزمن.. نوتة شجية مقتطفة من سحابة هطلت قبل ثلاثة عقود أو يزيد... خرجتُ وخرج صديقي بقلبين مثخنين بالتسعينات.. وأحلام التسعينات.. وجروح التسعينات..
هكذا هي الذكريات..
لا فرق لديها بين قيظ الشتاء الإنجليزي.. أو زمهرير جدة الصيفي.. وبحرِها الدافئ الممتد خلف كوبري الميناء.. كحضن مرضعة عطوف!
عن التسعينات وتخريب اللعب.. وعن صوت خالد!
تاريخ النشر: 05 يوليو 2018 01:30 KSA
كانت التسعينات لمن عاشها زمناً مختلفاً عن أزمان البشرية الفانية... كنا نظنها هكذا.. حين استقبلناها استقبال الفاتح الجديد.. الأمل الجديد.. والعشق الجديد. لكنها -بطبيعة الحال- لم تكن كذلك: مارس صدام هوايته في تخريب اللعب.. ودخل العالم العربي في مرحلة شك غير معهودة، وجاء خالد عبدالرحمن بحزنه وشجنه المرير.
A A