ثمة خطأ يجري من حولنا في هذا العالم الكبير. كل المعطيات تشير إلى أنه حساسٌ وخطير، وأن تأثيره السلبي يهدد البشر في كل مكان، لكن المفارقة تتمثل في أن أصحاب القرار الدولي يتعاملون مع أعراضه السطحية، دون البحث عن أسبابه الحقيقية.
ماذا يعني أن تتقدم كلٌ من أوروبا وروسيا بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد السياسات الجمركية الأمريكية الجديدة، وأن تقوم أوروبا قبل ذلك بفرض رسوم جمركية على منتجات أمريكية، وأن تنضم إليها في القرار الصين، وأن تفرض كندا «إجراءات انتقامية» اقتصادية ضد الولايات المتحدة، وأن يقول روبرت بيركفيست، الخبير الاقتصادي السويدي، إن «الحرب التجارية [بين أمريكا والعالم] تتكثف»؟ هذا فضلاً عن التصريحات والاتهامات العنيفة المتبادلة، غير المسبوقة، بين قادة الاقتصادات الأكبر في العالم.
أين هو الاقتصاد الحر الذي كان يُفترض أن يكون أبرز منجزات الحداثة المعاصرة، ووعدَها الأكبر بتعميم الرخاء والتنمية في العالم، ومدخَلها الموعود لتجنّب النزاعات السياسية؟
ماذا يعني التصاعد الكبير للأزمة فيما يتعلق بمفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى درجةٍ يُوجّهُ معها دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، ما أسماه «نداءً أخيراً» إلى بريطانيا لتوضيح ما تريده من قرار «بريكزيت» المشهور، وأن يقول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون: «لايسعنا الانتظار وقتاً أطول»؟ إضافةً إلى مشاعر إحباط سائدة بين قادة الاتحاد الأوربي، تعبر عن نفسها علناً وبشكلٍ متكرر. فضلاً عن النزاعات الداخلية في بريطانيا بخصوص المسألة، سواء كان بين أعضاء الحكومة البريطانية نفسها، أو بينها وبين حكومات اسكتلندا وجمهورية إيرلندا التي ترفض الخروج أصلاً من الاتحاد الأوروبي.
أين الحديث عن أكبر إنجازٍ سياسيٍ معاصر يتمثل في إنشاء الاتحاد الأوروبي بين دول مختلفة في لغاتها وثقافاتها وتاريخها؟ ولماذا تتصاعد دعوات الخروج من الاتحاد في دول أوروبية أخرى، وصلت أخيراً إلى إيطاليا، التي تحكمها الآن حكومةٌ كانت أحزابها تدعو لمثل هذا الخروج في حملتها الانتخابية قبل فوزها؟ لماذا يرفض عشرات ملايين الأوربيين مثل ذلك الإنجاز بعد أقل من ثلاثة عقود فقط من التجربة التي أعلنت رسمياً في معاهدة ماستريخت عام ١٩٩٢، وأخذت زخماً كبيراً لمدة عقدين، بدأت بعدها رحلة الخلافات، وما زالت مستمرة وتتصاعد؟
ماذا يعني، أيضاً، التهديد الكبير بانقسام أوروبا، والناتج عن الخلافات في مسائل الهجرة واللجوء التي عبّرت عن نفسها في قمتين أوروبيتين خلال الأسبوعين الماضيين؟ لماذا أعلنت أربع دول أوربية (المجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وبولندا) مقاطعة القمة الأوربية، الأولى، الخاصة بموضوع الهجرة واللجوء، حيث قال رئيس الوزراء المجري أنها «مخالفة لأعراف الاتحاد الأوروبي»، ورفضَ مع قادة الدول الثلاثة الأخرى الاعتراف بها وبنتائجها؟!
أما القمة الثانية الاعتيادية فقد شهدت بدورها خلافات كثيرة. ورغم أنها تبنّت قرارات أكثر تشدداً من ذي قبل تجاه المهاجرين واللاجئين، إلا أن هذا لم يكن كافياً لرئيس الوزراء الإيطالي الذي رفض نتائج القمة وصياغتها! ثم إن الأمر وصل إلى ألمانيا التي تكاد حكومتها الائتلافية تنهار بعد استقالة وزير الداخلية المتشدد فيما يتعلق بمواضيع الهجرة واللجوء.
أين أوروبا المنفتحة على العالم بمبادئها التي تُشدد على حقوق الإنسان في كل مكان؟ ماذا حصل لثقافة «التنوير» التي وُلِدت في هذه القارة، وكانت أهم مبادئها المساواة والحرية والعدل بين البشر، بغض النظر عن الخلفية الإثنية والمذهبية والمناطقية لهم؟ لماذا تتصاعد حركات وأحزاب التطرف اليميني بشكلٍ مخيف، فتصل إلى الحكم في بعض الدول، وتكاد تصل إليه في دول أخرى؟
ما من شيءٍ تُظهره هذه الأحداث والوقائع أكثر من حاجة أوروبا وأمريكا إلى المراجعات. مراجعات تشمل ماهو سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي من الأنظمة التي ساد اعتقادٌ، ليس فقط بأنها نهائيةٌ، بل وأنها صحيحةٌ بشكلٍ نهائي. بالمقابل، تُظهر الثغرات والمشاكل الراهنة ضرورة إعادة النظر فيها، كتجربةٍ أخرى من تجارب البشرية، وليست (التجربة) بأل التعريف. وأن الأوان ربما حان للبحث في نظامٍ قد يكون أفضلَ منها، أو في ضرورة تطويرها بشكلٍ جذري في أقل الأحوال.
لايرمي هذا التحليل للمشاركة في جوقة الشماتة بالغرب أو الحديث الوهمي عن (انهياره) القادم! وليس من أهدافه تغطية خيباتنا الكثيرة، بدعوى أننا لسنا وحدنا المأزومين في مجتمعاتنا. وإذا كان ثمة خيرٌ من تلك المراجعات فسيكون للغرب أولاً وآخراً، دون أن ينفي هذا إمكانية استفادة الآخرين إيجابياً، بتخفيف الأزمات التي تفيض على العالم بسبب سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية. لكن هذا لن يُعفينا، كعرب، من قلع أشواكنا بأيدينا وتصحيح أوضاعنا في كل مجال.