محمل الحج الشامي ومحمل الحج المصري هما من طقوس مملوكيَّة لم يبق منها إلَّا قطع أثريَّة تعرض في متاحف دمشق والقاهرة على شكل إطار خشبي مربَّع وفوقه هرم يكسوه نسيج حريري أسود مطرَّز بخيوط ونقوش وزخارف من لون الذهب. ويبدو محمولاً على ظهر جمل يحيط به حارسان مع شمع وسنجق.
هذا المشهد الرمزي هو آخر ما تبقَّى من الوسيلة الوحيدة يومها لأداء فريضة من فرائض الدين، والحجيج يسلك طرقًا ومسارات غير آمنة، يوم لم تكن هناك طيّارات ولا مركبات ولا حدود.. ويومها كانت الطريق الممتدة من دمشق إلى المدينة المنوَّرة من أقصر الطرق وأكثرها سلوكًا. غير أنَّها من أكثرها رعبًا وخوفًا ونهبًا وسلبًا.وظلَّ الحكَّام طوال العصور الإسلاميَّة حتَّى العهد العثماني يعنون بهذه الطريق وأمنها وتعميرها بإقامة الحصون والقلاع فيها.
يعود تاريخ طريق الحج الشامي إلى بداية انتشار الإسلام في بلاد الشام، ثمَّ في آسيا الصغرى وما جاورها. وكان يمثِّل أهميِّة خاصَّة للسلطان العثماني الذي كان يُرتِّب للمحمل الشامي الذي يسير خلفه الحجَّاج ما يلزم الرحلة الطويلة التي تمتدُّ عدَّة أسابيع من حرس وعتاد وزاد. ويعيِّن له أميرًا للحج، كان بدءًا من سنة 1708 والي دمشق، يرفقه موظَّفون عثمانيُّون يُرسلون من إسطنبول للإشراف على شؤون الحجَّاج. وكان يرافق القافلة قاضٍ ومؤذِّنٌ وإمام. وأهم واجبات أمير الحج ضمان أمن القافلة من هجمات البدو الذين كانوا يطبقون على القوافل وينهبون ما يحمله الحجَّاج من أموال ومواد غذائيَّة، وقد يكون مع بعضهم سلع حُملت للإتَّجار بها، فيصادرها قطَّاع الطرق ويتقاسمونها إذا لم يتقاتلوا فيما بينهم لاستحواذ الأقوى منهم عليها. لذلك نشأت مع الزمن عادة دفع (الصرَّة)، وهي أموال عينيَّة تُجبى من الولايات بأساليب مختلفة، وتدفع لزعماء البدو لصرف أذاهم عن قافلة المحمل.
استمرَّ الحال على ما هو عليه من فقدان للأمن على طول طرق القوافل من نهب وسلب يصل أحيانًا إلى القتل. إلى أن هيَّأ الله لجزيرة العرب من يحمي حماها ويخلِّصها من عبث العابثين بأمنها وأمانها، فكان الملك المؤسِّس عبد العزيز آل سعود طيَّب الله ثراه. ففي عهده الميمون، وعهود من خلفه من أنجاله الملوك وخدَّام الحرمين الشريفين، استتب الأمن والأمان في الطرق والمسارات كافَّة، من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وتوسَّعت شبكات الطرق البريَّة والجويَّة والبحريَّة، فازدادت أعداد ضيوف الرحمن من الألوف إلى الملايين من كلِّ أقطار العالم، وتوفَّرت لهم وسائل التنقُّل والإقامة الميسَّرة في المدينتين المقدَّستين وفي المشاعر. وأصبح بوسع الحاج أن يؤدِّي فريضته في أيَّام قليلة، يعود بعدها إلى أهله وبلده سالمًا، بعد أن كان قاصد الأماكن المقدَّسة في حكم المفقود والعائد منها في حكم المولود. ونجده اليوم وقد أدَّى الفريضة يلمس باليد ويرى بالنظر استجابة المولى جلَّت قدرته وعظمته لمناجاة نبيِّه إبراهيم عليه السلام بقوله:
(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
فها هي الخيرات والثمرات وكلُّ ما تنتجه شعوب العالم تعرض في أسواق بلد الحرمين الشريفين على مدى العام. فالحمد لله على فضله وكرمه، وقدَّرنا على شكره، وعلى الحفاظ على نعمه التي لا تحصى، ووقانا شرَّ الحاسدين والطامعين والمأجورين، وكلِّ من يعمل على إشاعة الفوضى والفتن التي نال جيران المملكة الكثير من أذاها وضررها.
الصرَّة ومحمل الحج
تاريخ النشر: 03 أغسطس 2018 01:00 KSA
استمرَّ الحال على ما هو عليه من فقدان للأمن على طول طرق القوافل من نهب وسلب يصل أحيانًا إلى القتل. إلى أن هيَّأ الله لجزيرة العرب من يحمي حماها ويخلِّصها من عبث العابثين بأمنها وأمانها، فكان الملك المؤسِّس عبد العزيز آل سعود طيَّب الله ثراه.
A A