في سالف العصر والزمان، وقبل أن ينعم أجدادنا بوسائل التنقل السريعة التي نعرفها اليوم من طرق معبَّدة وسكك حديد ممدودة وطائرات تعلو السحاب، كانت التنقُّلات في قوافل يمتطي أفرادها الخيل والجمال.يقطعون البراري والسهول والمرتفعات والمنخفضات إلى أن يصلوا مقصدهم. وكان للحجيج من بلدان المشرق والمغرب محطَّة رئيسية يشدُّون إليها الرحال قبل دخولهم بلاد الحرمين الشريفين، وكانت تلك القدس الشريف التي خصَّها الله بالذكر، رافعاً منزلتها بجعلها مسرى رسولنا الكريم محمَّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. فهي مهبط الأنبياء والمرسلين.
هي ذاتها المدينة التي بشَّر الله منها زكريَّا بيحيى عليهما السلام. وسخَّر لداود عليه السلام الجبال والطير. وفيها نشأ نبيَّ الله عيسى عليه السلام. وفيها أنزلت عليه المائدة، ومنها رفع الى السماء. فيها اجتمعت مقدَّسات الديانات السماويَّة التي اختار الله رسله وأنبياءه من أبناء هذه الأرض المباركة وما حولها من بلاد جزيرة العرب لينشروا العدل والمحبّة والإخاء في ربوع العالم. ومع أنَّ بيت المقدس وما حوله من أراضٍ مباركة في بلاد الشام كان تحت حكم الرومان والكنيسة وقت انتشار الرسالة المحمَّديَّة في مشرق العالم ومغربه، فقد حظيت العهدة العمريَّة التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطَّاب لأهلها بمكانة إنسانيَّة راقية لمضمونها ولما أعطته لأهالي القدس من حقوق متكافئة عدلاً وإنصافاً بينهم وبين المسلمين، فسادَ الودُّ والإخاء ربوع بيت المقدس وما حوله إلى أن غزاها رعاع أوربَّا بتحريض من دعاة القتل والسلب تحت راية الصليب، وأقاموا فيها مئة من السنين. وقد أجلاهم عنها القائد صلاح الدين الأيُّوبي بما تقتضيه مكارم الأخلاق، ليعودوا من حيث أتوا، معيدًا لبيت المقدس وما حوله الأمن والأمان. وعادت قوافل الحجَّاج من المشارقة والمغاربة للتوقُّف في بيت المقدس وهي في طريقها للحج وللعمرة. ومع تشييد السلطنة العثمانيَّة سكَّة حديد الحجاز رابطة مدن الشمال بالمدينة المنوَّرة، كان للقدس محطَّته المميَّزة في تسهيل زيارة الحجَّاج على تعدد دياناتهم إليها. غير أنَّ هذا الوصل بين مدن المشرق العربي الاسلاميَّة لم يرق للغرب المتحكِّمة في إدارته عصابات النهب والسلب، فأوقدوا نار حرب أتت على سكَّة حديد الحجاز في سنواته الأولى وعلى ما كان مؤمَّلًا أن يحقِّقه من وحدة الأمَّة العربية. وأعقب ذلك قضاء الغرب على السلطنة العثمانيَّة وتقاسم البريطانيُّون والفرنسيُّون بلاد الشام. وتفرَّدت بريطانيا بإعطاء وعد لليهود بإقامة دولتهم فوق تراب فلسطين وكان لهم ذلك.
وها هي القدس اليوم وما حولها من أراضٍ مباركة ترزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، ومواطنوها تحت ذلِّ القهر والإذلال.. لا يخفِّف من ذلك الألم إلَّا ما يقدِّمه الفلسطينيون من مسلمين ومسيحيِّين من شهداء، وقادتهم من إصرار على استعادة ما سلب منهم، معتمدين على نصر الله من ينصره.. وعلى ما يقدَّم لهم من دعم مادِّي ومعنويٍّ من إخوانهم وجيرانهم، وفي المقدَّمة قادة بلد الحرمين الشريفين الذين يواصلون الدعم والتأييد للشعب الفلسطيني ليستعيد بيت المقدس وما حوله مكانته الروحيَّة والاجتماعية في جمع كلمة المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله.