التَّعالُم وادّعَاء العِلْم، والتَّظَاهُر بالمَعرفَة، أَصبَحت مِن الأمُور الطَّافية والطَّافِحَة؛ والبَارِزَة عَلَى السَّطح، وكَأنَّ كَثيراً مِن النَّاس؛ أَلغَى مِن قَاموسهِ المَعرفي، والعَقلِي والفِكري، عِبَارة: «لَا أَدرِي»..!
يَا قَوم، إنَّ عِبَارة: «لَا أَدرِي» هِي نِصْف العِلْم، فلِمَاذَا نَتنَازَل عَن هَذا النِّصف، الذي لَو تَدبَّرناه وتَأمَّلناه؛ سيَقودنَا إلَى النِّصف الآخَر..؟!
وحَتَّى تَستَقيم الأمُور والأَحوَال، فِي هَذا المَقَال، دَعونَا نَستَشهِد بالشَّوَاهِد والأَمثَال:
يَقول «الهيثم بن جميل»: شَهدتُ «مالك بن أنس» -رَضي الله عَنه- سُئِلَ عَن ثَمانٍ وأَربعين مَسأَلَة، فقَال فِي اثنَتين وثَلاثين مِنهَا: «لَا أَدرِي»..!
أَكثَر مِن ذَلك، تَروي كُتب التُّرَاث؛ أنَّ رَجُلاً سَأَل «سيفويه القاص»: مَا الغُسليْن؟، فقَال «سيفويه»: (عَلَى الخَبير سَقَطْتَ. سَألتُ عَنه شَيخاً مِن فُقهَاء الحِجَاز، مُنذ أَكثَر مِن سِتِّين سَنَة، فقَال الشّيخ: «لَا أَدرِي»)..!
وإذَا أَردتُم مَزيداً مِن الأَدلَّة، فإليكُم «الإمَام الشّعبي»، حِينَ سُئِل عَن مَسأَلَة، فقَال: لَا عِلْم لِي بِهَا، فقِيل: أَلَا تَستَحي؟، فقَال: ولِمَ أَستَحيي مِمَّا لَم تَستَحِ مِنه المَلائِكَة، حِينَ قَالت لله – عَزَّ وجَل-: (لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمتنا)..!
وإذَا أَردتُم المَزيد مِن الشَّوَاهِد، فإليكُم عِبَارة حبر الأُمَّة وتُرجمَان القُرآن، «عبدالله بن عباس» -رَضي الله عَنهمَا- حَيثُ قَال: (إذَا تَرَكَ العَالِم «لَا أَدرِي»، أُصِيبَت مقاتِله)..!
وقَبل خِتَام المَقَال أَقُول: بَعض النَّاس إذَا سَألتَه قَال: الله أَعلَم، وهُنَا يَطرح بَعض العُقلَاء سُؤالاً، حَول الفَرق بَين عِبَارتيْ: «الله أَعلَم، ولَا أَدرِي»؟.. بالتَّأكيد لَن أُجيب، بَل سأَستَعين بقصّة رَجُل، سَألَه «عمر بن الخطاب» – رَضي الله عَنه- عَن شَيء، فقَال: الله أَعلَم. فقَال «عمر»: لقَد شَقينَا إنْ كُنَّا لَا نَعلَم، أَنَّ الله أَعلَم. إذَا سُئِلَ أَحدكُم عَن شَيء لَا يَعلمه، فليَقل: «لَا أَدرِي»..!
حَسنًا.. مَاذَا بَقي؟!
بَقي القَول: هَذه جُرعَة مِن دَلَالَات وإشَارَات عِبَارة: «لَا أَدرِي»، وهي عِند العُقلَاء، لَا تَعنِي الجَهْل، وإنَّما تَعنِي إعطَاء مَعلُومَة عَن الإنسَان، بأَنَّه خَالٍ مِن المَعرفَة فِي المَوضوع الذي سُئِلَ عَنه، وهَذا الفَراغ المَعرفي المُتوَّج بعِبَارة: «لَا أَدرِي»، لَيس دَليلاً عَلَى التَّهرُّب، بَل هو حَافزٌ عَلَى البَحث، والطّلب والاستقصَاء، لِذَلك كُلّ العُقلَاء -بلا استثنَاء- إذَا سَألتهم اليَوم عَن شَيء وقَالوا: «لَا أَدرِي»، فإنَّهم يَأتونك مِن الغَد، وفِي جُعبتهم الجَوَاب الشَّافي، والحَلّ الوَافِي..!!