الثقافة مفردة أنيقة، تحمل دِلالات عميقة، ومعاني راقية، ومقاصد بعيدة، تؤهل المتلبِّس بلبوسها ليكون أهلاً لسمو الفكر، ورقي اللغة، وسعة الأفق، وصوابية المنطق، وعلو الذائقة، وغيرها من المميزات التي لا تتوافر عادة إلا في المشتغلِين عليها ممن يسمون بـ(المثقفِين). ومع أن الثقافة ناصعة المعاني، واضحة المقاصد والأهداف، إلا أن المثقفِين أصبحوا يعيشون حالة عدم اتزان؛ فترى سفينتهم تتقاذفها الرغبات والأهواء، ولا أدلَّ على ذلك من هرولة بعضهم تجاه الدعوات التي لم تأتِ من عُمق المشهد الثقافي، ولا من لدُن المثقفِين الحقيقيين الذين يعون جيِّدًا ماهية الثقافة ودور المثقف، خصوصًا في هذه الفترة التي تكاثر فيها المدَّعون وصلاً بالثقافة، كل يريد أن تكون له فيها بصمته، حتى لو تطلَّب الأمر القفز على أهدافها الأصيلة. دعوني أعرض لثلاث حالات تبين الحال التي وصلت إليها الثقافة وارتضاها بعض المثقفين: الأولى- تتمثل في تجاوز بعض المؤسسات الثقافية (الرسمية) لبعض لوائحها، فتجد تلك المؤسسات تقيم أمسيات شعرية باللهجات (العامية) في تجاوز صريح لنصوص اللائحة التي جعلت من مهام المؤسسات الثقافية نشر الأدب (باللغة العربية الفصحى)، وكأني بممرِّري مثل هذه الأمسيات لَمَّا أن خفتت عنهم الأضواء وعزف عنهم الجمهور أرادوا البحثَ من جديد عن مساقط الضوء، وتتبعَ بقعه، واستجداءَ الحضور الجماهيري ولو على حساب مخالفة اللوائح والأنظمة والهوية. الحالة الثانية- تَنادي بعض المثقفين بضرورة خروج الفعاليات من مقار المؤسسات الثقافية إلى الشارع (الأسواق، الحدائق، المتنزهات..) تحت مبرر البحث عن المستهدَف (الجمهور)، ولو أن هذا الجمهور كان مثقفًا حقًّا أو محبًّا للثقافة لما نأى عن مَواطنها، ولَأَتَى إليها تحت أي ظرف زماني أو مكاني، فالثقافة ضربٌ من العِلم، والعلم لا يأتي بل يؤتى إليه. ذاتَ ليلة شهِدتُ واحدة من هذه الفعاليات (فعاليات الشارع) وكانت أمسية شعرية أُقيمت في (بخشة)، وقد بدأتْ وسط جو من الأصوات التي تأتي من كل جانب (أصوات السيارات وأصوات المتنزهين وغيرهم) فتتداخل مع أصوات الشعراء، ثم رُفع أذان صلاة العِشاء من أكثر من مسجد فتوقفت الأمسية، ثم عاودت واستمرت حتى أقيمت الصلاة فتوقفت قرابة عشر دقائق، ثم عاودت. ومع أن الحضور كان جيدًا إلا أن ما ينبغي ألا يغفل عنه القائمون بأمر مثل هذه الفعالية وأمثالها هو أن أكثر هذا الحضور لم يحضر لعيون الثقافة وللارتواء من معين الأدب؛ فبعضهم حضر عَرَضًا، وبعضهم فضولاً، وبعضهم كان متنزهًا فعرج عليها، ودليل صحة ذلك هو الحركة شبه المستمرة للحضور بين آتٍ وذاهبِ. الحالة الأخيرة- تتمثل في دعوة بعض المثقفين لتبني قواعد جديدة تنتظم فيها العامية، وكأنهم ضاقوا ذرعًا بالفصحى التي صعدوا على أكتافها، وحملتهم إلى جمهورهم ومتابعي نتاجهم الفصيح (النثري منه والشعري). لا أظن هرولات بعض المثقفين أتت إلا نتيجةً طبيعية لعجزهم عن تقديم فعل ثقافي ذي قيمة فلجؤوا لخطب ود الشعبي الشارع والعامية، أو نتيجةَ رضوخهم لأهواء أسماء دخلت على المشهد الثقافي وهي التي كانت لها اشتغالاتها السابقة التي لا تتماس مع الثقافة ثم وجدت أنفسها اليوم تُؤثر في بعض فعاليات المؤسسات الثقافية مع أنها من خارج منظومتها الرسمية، أو محاولةً منهم لإعادة زمنٍ كانوا فيه كل شيء فأضحوا لاشيء، فهرولوا خلف الجماهير أيًّا كانت اهتماماتها، وأيًّا كانت أماكن تواجدها، وقدموا لها (عَكَرًا ثقافيًّا)، فلا تسل بعد هذا العكر الثقافي عن تردِّي الذائقة، ولا عن هوان المثقف، ولا عن ضبابية مستقبل المشهد الثقافي.
المثقفون وثقافة الهرولة
تاريخ النشر: 03 أكتوبر 2018 01:00 KSA
فتجد تلك المؤسسات تقيم أمسيات شعرية باللهجات (العامية) في تجاوز صريح لنصوص اللائحة التي جعلت من مهام المؤسسات الثقافية نشر الأدب (باللغة العربية الفصحى)، وكأني بممرِّري مثل هذه الأمسيات لَمَّا أن خفتت عنهم الأضواء وعزف عنهم الجمهور أرادوا البحثَ من جديد عن مساقط الضوء، وتتبعَ بقعه، واستجداءَ الحضور الجماهيري ولو على حساب مخالفة اللوائح والأنظمة والهوية
A A