أواصل الحديث عن عدم توفيق الإمام ابن القيِّم في عنوان كتابه: «إعلام المُوقعين عن ربِّ العالمين».. فإنَّ هذا يعني أنّ الفتاوى التكفيرية تُنسب إلى الله جل شأنه، والتي تدعو إلى قتال غير المسلمين إلى أن تقوم الساعة، للفهم الخاطئ للجهاد، الذي فسَّروه بمقاتلة المناوئ للدعوة، الذي لا يريد أن يدفع الجزية، والذي لا يُريدك أن تنشر الإسلام، هذا هو فهمهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى).. (رواه البخاري ومسلم).
فهذا الحديث تنفي صحته كل آية من الآيات التالية: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ).. (يونس: 99-100)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر).. (الكهف:29)، (َلكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).. (الكافرون:6)، (لوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا).. (الرعد: 3)، (إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت).. (القصص:56)، (إنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ).. (الشورى:48)، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).. (الغاشية:22).
فأخذوا بهذه الرواية لاعتقادهم بصحة جميع أحاديث الصحيحين، ولقولهم بأنّ هذه الآيات بقيت تلاوتها ونُسخ حكمها، فهل هؤلاء الذين جعلوا علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم في قتال معهم إلى أن تقوم الساعة يملكون حق التوقيع عن الله، وما يفتون به يخالف حكم الله، وقوله: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).. (الحجرات:31).
إضافةً إلى مخالفة الحديث للواقع التاريخي، فهو لا يتفق مع «صحيفة المدينة» التي كانت بينه -عليه الصلاة والسلام- وبين سكان المدينة، وقد تضمنت بنودها احترام حرية التدين لسكان المدينة على اختلاف دياناتهم.
كما لا يتفق مع واقع الحروب التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مشركي مكة واليهود، فقد كانت حروبًا دفاعية، وليست هجومية. وقد ارتكب كُتَّاب السيرة والمؤرخون القدامى والمحدثون خطًأ فادحًا بإطلاقهم على حروب كفار قريش ويهود المدينة وخيبر للرسول -صلى الله عليه وسلّم- بغزوات الرسول، فهو لم يغزو، وإنّما صدّ هجوم الغزاة.
وهم بقولهم هذا، يُعزِّزون فرية نشر الإسلام بحد السيف، لأنّهم حصر مفهوم الجهاد في سبيل الله بالقتال في سبيل نشر عقيدة التوحيد، ومجاهدة الكفار بدعوتهم وقتالهم، فالإسلام لم ينتشر بالقتال، وإنّما بحُسن المعاملة، بدليل دخول كثير من البلاد الآسيوية والإفريقية في الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فلم تكُن غاية الفتوحات الإسلامية فرض الإسلام، وإنّما كانت غايتها حماية دولة الإسلام في الجزيرة العربية من الأخطار التي تُهدِّدها من الإمبراطوريتيْن الفارسية والرومانية، فقد أمّن الفاتحون المسلمون سكان البلاد المفتوحة على أديانهم وكنائسهم ومعابدهم وأموالهم، حتى اللغة العربية لم تُفرض عليهم، بدليل أنه لم يتم تعريب الدواوين إلّا في سنة مئة هجرية، أي بعدما تعلَّم سكان البلاد المفتوحة اللغة العربية نتيجة اختلاطهم بالقبائل العربية التي رافقت الجيوش الفاتحة، واستقرت في تلك البلاد واختلطت بسكانها، وتصاهرت معهم.
فهل الذين يتصدّون للفتوى يُعتبرون موقِّعين عن رب العالمين لمجرد أنّ الإمام «ابن القيِّم» قرر ذلك، وبعضهم يترك آيات قرآنية بدعوى نسخها لعدم فهمه آية: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).. (البقرة:106)، ويستند على أحاديث ضعيفة وموضوعة لمخالفتها للقرآن الكريم؟.. بل نجد بعضهم قد أفتى بفتاوى تُخالف القرآن الكريم مخالفة صريحة، والأمثلة كثيرة، سأُوضح بعضًا منها في الحلقة القادمة -إن شاء الله- فللحديث صلة.