يحتاج كلُ إنسانٍ إلى مجموعةٍ من الأمور التي تَتدرّج في أهميّتها من الأمور الضرورية لبقاء الحياة ثم مستلزمات التفاعل الاجتماعي ثم متطلّبات النجاح والتميّز. يُوضّح نموذج هرم الاحتياجات الإنسانيّة المعروف لعالم النفس الأمريكي ماسلو، تسلسُل احتياجات الإنسان بدايةً من الضرورات الفسيولوجية التي تتضمن الاحتياجات الجسديّة من طعام وماء ونوم وما إلى ذلك، ثم احتياجات الشعور بالأمان الجسدي والوظيفي وأمن الممتلكات، ثم الاحتياجات الاجتماعية المتمثّلة في الصداقة والعلاقات الأسرية، ثم الحاجة للتقدير بما في ذلك تقدير الذات والثقة والاحترام المتبادل مع الآخرين، وصولاً إلى قمّة الهرم المُتمثّلة في تحقيق الذات حيث يكون الابتكار وحل المشكلات وتقبّل الحقائق وهي مرحلة الإنجاز والعطاء.
لكي يصل الإنسان إلى الإنجاز وتحقيق الذات في قمّة الهرم فإنّه يتوجّب عليه الصعود من المستويات الأدنى وذلك بسدّ احتياجاته الفسيولوجية ثم احتياجات الأمان والاحتياجات الاجتماعيّة والتقدير.. ومن الطبيعي أن يتفاوت الأفراد في مقدارِ اكتفائهم من كل فئةٍ من فئات تلك الاحتياجات.. ففي حين قد يستغرق البعض عمره كاملاً في تأمين احتياجاته من المراحل الأوّليّة (الاحتياجات الفسيولوجية والأمان...) ولا يصل أبداً إلى مرحلة الإنجاز وتحقيق الذات، فقد تميّز أبرز من خلّد التاريخ سِيَرَهم من البشر في أنّهم لم يستنفذوا كثيراً من أعمارهم في المراحل الدُنيا بل سَمَوا بالاكتفاء بالحدّ الأدنى من الاحتياجات المختلفة مما مكّنهم من تحقيق ذاتهم بالوصول إلى القمّة في الإنجاز والتميّز البشري.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الكمال البشري فقد كان يمرّ الشهر والشهرين دون أن توقَد في بيوته صلى الله عليه وسلم نارٌ وكان أكثرُ طعامه التمر والماء وورد عنه صلى الله عليه وسلم «بحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»، «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». وعلى هديه القويم سار علماء المسلمين وروّاد أسمى نهضة عرفتها البشرية مما مكّنهم من تحقيق إنجازاتٍ رائعةٍ فكان أحدهم بحقٍ رجلٌ بأُمّة، ولعل من أشهرهم في الإنجاز العلمي الإمام النووي رحمه الله الذي ترك مؤلَّفات سارَتْ بها الرُّكبان مع أنه تُوفي في سنّ 45 وانتشرت مؤلفاته بشكلٍ كبيرٍ ومنها كتاب الأربعون النووية وكتاب رياض الصالحين من كلام سيّد المرسلين الذي يكاد لا يخلو منه بيتٌ من بيوت المسلمين. وفي عصرنا الحديث فقد اشتهر في الإنجاز الدعوي د. عبدالرحمن السميط عليه رحمة الله الذي ترك الحياة الرغيدة وقضى قرابة 29 عاماً في مجال الدعوة في إفريقيا وكان سبباً في إسلام 11 مليون إفريقي وبناء أكثر من 5500 مسجد وأكثر من 850 مدرسة و124 مستشفى ومستوصفا وتوزيع أكثر من 650 مليون نسخة من القرآن الكريم والكتب المختلفة، وغير ذلك الكثير.
إنّ النّفوس السامية وثّابةٌ نحو المعالي وتسعد بالعطاء أكثر من الأخذ، ويكتفي أصحاب النّفوس السامية بالحدّ الأدنى من الاحتياجات الضروريّة للوصول إلى الإنجازات الاستثنائيّة.
اللهم ارزقنا شُكر النّعمة وحُسن العَمل.
وكيل وزارة الحج والعمرة
لشؤون نقل الحجاج والمعتمرين