يتطوّر الإنسان أثناء مسيره في الحياة، عِلماً وسُلُوكاً، حيث يكتسب النّاس، عادةً، العِلم من المؤسسات التعليميّة، فيما تُكتَسَب الخِبرات والمَعارف الحياتيّة من الأحداث التي يُواجهها الشخص أثناء حياته، ولتلك الخبرات الحياتيّة الجزء الأهمّ في صقل الشخصية وتمايز الأفراد عن بعضهم البعض.
وفي حين أنّ المناهج الدراسيّة، المحتوية على معارف وعلوم مُتنوّعة، يتم تنظيمها من خلال مراحل تعليميّة متتالية ليسهُل على معظم النّاس استيعابها، وتُستخدم الاختبارات عادةً للدلالة على مدى استيعاب «المُتعَلِّم» لتلك المناهج. ويُفترض أن تزداد مُحصّلة الفرد التعليميّة كُلّما صعد في سُلّم التعليم.
إلّا أنّ الخِبرات الحياتيّة، لا تتبع نمطاً منهجياً مُحدّداً ولكنّها تتفاوت حسب الظروف والأحداث التي يُواجهها كل إنسان، ويعتمد مدى استيعاب الفرد للدروس الحياتيّة على ردود فعله تجاه ما يُواجهه من أحداث. وفي حين يحتاج البعض إلى إعادة الاختبار (الحَيَاتي) لأكثر من مرّة ليتعلّم منه الدرس (الخِبرة الحَياتيّة) ومن ثمّ تظهر تلك (الخِبرة) في سُلُوكه وتعامله مع محيطه، إلّا أنّ البعض الآخر يكفيه لاستيعاب الدرس (الحَيَاتي) أن يُواجه موقفاً بسيطاً بل ربما تكفيه المواقف التي يتعرّض لها أشخاص آخرون غيره. وعموماً، فإنّ محصلّة الإنسان من هذه الخِبرات والمعارف الحياتيّة تزداد بمقدارِ استيعابه للأحداث واستفادته من الدروس وطريقة التعامل معها.
إنّ في ورود اسم الرَّحْمَنُ عز وجل قبل عَلَّمَ الْقُرْآنَ دلالةٌ لطيفة وهامّة في مجال التعليم والتربية والعمل، لنعلم أنّ الأسلوب الأمثل للتعليم يقترن دوماً بالرحمة.
وحريٌ بِنا، ونحن نحرص على ترسيخ العِلم في الأذهان وتوطيد السلوك الحَسَن في تعاملاتنا الحياتيّة، أن نستنير بالهدى الربّاني وتكون مَناهجنا التعليميّة وجُهودنا التربويّة ومُمارساتنا العمليّة في مدارِ الرَحْمَة. ولنا في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الأُسُوة الحسنة، فنستذكر هُنا قول معاوية بن الحكم رضي الله عنه حين شمّت العاطس أثناء الصلاة فكان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له على أسمى ما يكونُ من الرحمة واللطف: مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي. وكذلك حاله صلى الله عليه وسلم في كافة علاقاته مع من حوله {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، ووجّهنا صلى الله عليه وسلم للعمل بذلك أيضاً [فإنما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرين، ولم تُبْعَثوا مُعَسِّرين].
لذلك يجدرُ بِنا أن نستفيد من هذه اللفتة والتوجيه السماويّ، لينتفع من ذلك المُعلِّم في مدرستهِ والمُربّي في ميدانهِ والمُدير في إدارتهِ فنتبنّى الرَحْمَة في تعاملاتنا مع من حولنا ونجعلها رُكناً وأساساً في أهدافنا ومُستهدفاتنا.
إنّ للعلاقات الإنسانيّة بصفةٍ عامةٍ أثراً كبيراً في فلاح العمل وديمومته، فكما أنّ الدرس «العِلمي» الذي يتلقّاه التلميذ من المُعلِّم الودود (والمُتمكِّن) يرسخ بشكل أوثق من غيره، كذلك فإنّ الدرس «الحَيَاتي» الذي يكتسبه الفرد من تعاملاته المُجتمعية والعمليّة التي تكون في مدارِ المودّة والرَحمة، يكون أثره أكثر نفعاً (وفلاحاً) للفرد والمجتمع. وقد قال أحدهم: يظُن البعض من رجال الإدارة أن العلاقات الإنسانيّة فصلٌ في كتابِ تنظيم العمل، وهم مُخطئون في هذا، فالعلاقات الإنسانيّة هي كل الكتاب.
نسأل المولى عزّ وجل أن يُنير بصائرنا ويجعل سُلوكنا وتعامُلاتنا على هدي المبعوثِ {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، اللهُم صلِّ وسلّم وبارِك على مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.
وكيل وزارة الحج والعمرة
لشؤون نقل الحجاج والمعتمرين