في مقهى من مقاهي جدة، اخترتُ على عادتي ركناً هادئاً لأنجز فيه ما يمكن إنجازه من أعمال، والمقاهي المختصة (كوفي شبز)، فكرة مدنية حديثة، للقراءة، وللقاء الأصدقاء، وعقد الاجتماعات المهنية السريعة، ولجلسات التأمُّل والسكينة، ولإنجاز الأعمال.. أي لجعل الحياة أسهل وأجمل.. أغلق المقهى أبوابه للصلاة.. قبل عشرين دقيقة (ربما) من وقت الأذان.. لم يطردوني من المقهى.. لكنهم أطفأوا الأنوار، لأظل في العتمة.. ولهذا السبب أكرمنا الله بالهواتف النقالة.. كي لا أضطر (لشب الضو) وإضرام حريق بسيطة قد تمتد لبيوت الأحياء المجاورة.. المهم أنهم أغلقوا الأبواب، وأطفأوا الأنوار.
بعد دقائق بسيطة، أخذتُ سجادة الصلاة وبدأتُ أُصلي.. وانضم لي عدد من القابعين في الظلام مثلي.. صلّينا صلاتنا خاشعين ضارعين.. لا أذكر أني سمعت أي نداء للصلاة.. لكننا صلينا.
حين افتتح المقهى أبوابه مرة أخرى، وأشرق النور من جديد.. صعدتُ إلى الدور العلوي حيث دورات المياه.. لأُشاهد في الجهة المقابلة عدداً من الفتيات يُصلين بنفس طريقتنا؛ السجاداتُ نفسها.. في ممرّات المقهى نفسه.. وبالخشوع نفسه.. لا أعتقد أنهن سمعن نداءً للصلاة.
حدث الأمر ذاته في مقهى من مقاهي الرياض.. مالت الشمس على كتف الغرب كفتاة حانت قيلولتها على ذراع أبيها.. وسمعنا أذان المغرب.. أطفأ المقهى أنواره.. اصطففنا خلف إمامِنا، وصلّينا بسكينةٍ لا تليق إلا بمؤمن.. هكذا لم يطلب أحد مِنّا فعل ذلك.. لم يجبرنا أحد أن نفعل.. لكننا فعلنا.. مغتبطين.
مقهى آخر، اعتدتُ زيارته لفترة، حتى حدث ما لم أستطع فهمه ولا تفسيره.. كُنَّا نُصلي مجتمعين بالطريقة نفسها.. وكان إمامُنا أحد عُمَّال المقهى، ممَّن منَّ الله عليه بنعمة القرآن.. كانت الصلاة تُقام عادةً بعد 15 دقيقة من إطفاء الأنوار وإغلاق الأبواب.. كنتُ جاهزاً.. وكان الهلال يلعب، يفصل بينه وبين الفوز ثلاث دقائق.. حين استلَّ عامل المقهى الباكستاني ريموته من غمده، أقصد من جيبه، وأطفأ التلفاز.. هكذا ببساطة وأنا أُشاهد.. ونحنُ نُشاهد.. سألته بغضب: ليش يا صديق؟، فأجابني وابتسامته تُخربش وجهه بمكرٍ: «هذا سعودي رولز، بعدين في مسكلة»!!
قبعنا في الظلام بعدها لعشر دقائق إضافية.. ننتظر صلاة الجماعة.. بلا تلفاز.. لكنّ الهلال فاز.
إغلاق المحلات وقت الصلاة أمرٌ لا أفهمه أبداً.. لم يعد المنطق يسعفني لتبريره، ولم يعد للعصر أن يستوعبه.. لا علاقة له بالشعيرة.. ولا شيء يربطه بالخصوصية التي يدّعيها بعضنا، لذلك أتمنى أن نتركه سريعاً.. هكذا بهدوء.. وبدون ضجة.