بتتبعنا للعديد من تجارب الدول التي تحوَّلت من دولٍ مستهلكة إلى دولٍ منتجة بعد أن قامت بتطوير أنظمتها التعليمية وفق أحدث وأنجع الأساليب، نجد أن التعليم بكل مكوِّناته المادية والبشرية هو المحور الأساس الذي تقوم عليه العملية التنموية برمّتها، وأنه المنطلق الحقيقي لكل حركة تطوُّر حضاري تعيشه أي دولة في العالم، ولعلَّ من أبرز تلك الدول- على سبيل المثال لا الحصر-: أمريكا وروسيا، واليابان وماليزيا وسنغافورة... وغيرها، وبما أن بلادنا -وهي تخوض خطتها التنموية المتمثلة في رؤيتنا الطموحة 2030- تتطلع إلى الارتقاء لمصاف دول العالم الأول، وتسعى لأن تكون دولة منتجة للمعرفة لا مستهلكة لها، فإن نظام التعليم لدينا لابد أن يُعاد صياغته من حيث سياساته وخططه وأنظمته وهياكله ومبانيه وكل مكوّناته البشرية والمادية، بما يتفق ومسايرة التطور الذي يعيشه العالم من حولنا، ويقيني أن قيادتنا الرشيدة -في هذه المرحلة تحديدًا- تسعى لتحقيق ذلك الغرض، حيث نراها تُقدِّم كل الدعم بمختلف صوره، لذا أتمنى أن تأخذ وزارة التعليم في الاعتبار التشخيص العلمي الدقيق للأسباب التي أخفقت كثير من التجارب التطويرية السابقة، وما أكثر تلك التجارب عبر عدّة عقود، تلك التجارب التي تُعدُّ رائعة في محتواها النظري، لكنها لم تنجح عند التطبيق لعدّة أسباب أرى أنها لا تخرج عن التالي:
- التضليل الهرمي الذي يُمارَس في التقارير والمعلومات، بدءًا من مدير المدرسة حتى تصل إلى وزير التعليم، حيث نجد الكثير من المديرين يُبدِّلون حقائق بعض المعلومات لإرضاء رؤسائهم، والهروب من تحمُّل المسؤولية، والمُحزن أن الكثير من المسؤولين عن العملية التعليمية يعلمون بذلك التضليل، لكن تحقيقًا لمبدأ «المُخْرِج عايز كدا»، ودرءًا لقلع الكراسي المتجذرة، يَغضُّون الطَّرْف عن مثل هذه التصرفات.
- عدم تهيئة البيئة المناسبة لنجاح العملية التعليمية، كالأنظمة والهياكل والمباني والعديد من القيادات.
- تعدُّد الممارسات التخريبية التي يُمارسها البعض من خلال تحوير محتواها أو توجيهها إلى غير الهدف التي وُضعت من أجله، أو من خلال تلبيسها ألبسة ملونة بألوان منهج وفِكر البعض.
- إخفاق العديد من القيادات التعليمية في تنفيذ ومسايرة تلك الخطط، وعدم استيعاب البعض لمدخلاتها، واستمرارية بقاءهم رغم ذلك، وكأن «ما في البلد غير هذا الولد».
والمحزن أن تلك التجارب غير الناجحة تُهدر الملايين من المال، والكثير من الوقت والجهد، مما يترتَّب عليه ضمور الجانب المعرفي والسلوكي للطلبة والطالبات، وتعطيل الحراك التنموي.
ولعلِّي هنا استعرض أبرز تلك التجارب والبرامج التي طُبِّقت على طلاب وطالبات مدارسنا ثم أخفقت، حيث كان البدء في تنفيذها عام 1395هـ، حينما بدأ تطبيق تجربة الثانويات الشاملة التي لم تستمر إلا عدّة أعوام، ثم تلاها تجربة الثانويات المطوّرة عام 1412هـ، ثم أُوقف بعد عشر سنوات، وتلاها تجربة نظام الحصص (النظام السنوي)، ثم تبعه بعد ذلك تجربة النظام الفصلي بديلًا للنظام السنوي، ثم تجربة نظام المقررات، ثم العديد من التجارب والبرامج التي أخفقت، وما زالت التجارب جارية حتى كتابة هذا المقال.
وهكذا تتابعت التجارب من خلال الأنظمة والمشروعات والبرامج والآليات غير الناجحة حتى يومنا هذا.. فهل نسمع قريبًا عن قراراتٍ تعيد للمسيرة التعليمية مكانتها ودورها التنموي الفاعل في تخريج القوى البشرية المُؤهَّلَة والمُدرَّبة التي تُحقِّق متطلبات سوق العمل، لا القوى البشرية التي تزيد من معدلات البطالة الفكرية والعملية في مجتمعنا؟!.
والله من وراء القصد.