Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

وحيداً في برلين: خشونة الفعل الناعم..!!

A A
اخترتُ لحديثي في ندوة (الفعل الثقافي: قوة ناعمة)، بمعرض الكتاب بجدة عنواناً اعتبره البعض مفاجئاً ومستفزاً. كان العنوان (وحيداً في برلين)، وهو -كما تعلمون- مُقتَبَس من رواية ألمانية شهيرة، تُعد من كلاسيكيات العصر الحديث، للروائي الألماني هانس فالادا. بعنوان: (Alone in Berlin )... الرواية تحكي قصة والدين ألمانيين (من طبقة العمال ذوي تعليم عادي)، يفقدان ابنهما الوحيد خلال الحرب العالمية في فرنسا. يصلهما خبر الوفاة -كالعادة- بارداً عبثياً. تمر الأيام ثقيلة على الوالدين.. وتلوم الأم زوجها.. لأنه لا يفعل شيئاً لموت ابنه. فيُقرِّر الأب أن يبدأ حركة تمرُّد صغيرة.. قوامها المسلّح: قلم.. وبطاقة بريدية بحجم اليد. يبدأ الوالد بكتابة عبارات (بروباقندا مضادة للحرب وللنازية ولهتلر)، تضم رسائل لأهل برلين وللألمان ألَّا يُصدِّقوا الدعاوى النازية. يشعر الأب بالراحة.. فيُشرك زوجته في الأمر.. يشعران براحة أكبر كلما وضعوا -بسرية تامة- بطاقة (في الإدارات الرسمية، في محطات المترو، في الأماكن العامة...الخ)، يكثر عدد هذه البطاقات، وتتحول إلى ما يُشبه الظاهرة الاجتماعية المُعقَّدة، وتبدأ مطاردة مثيرة من الشرطة، ثم القيستابو، في محاولة حثيثة لاصطياد الجانين. في النهاية.. بعد أن يجن جنون القوى النازية في برلين يقبضون على الأب (متمرِّد الورقة والقلم) ويقتلونه.

الرواية مبنية على قصة حقيقية بتحريف بسيط (فالمقتول هو أخو البطل في الحقيقة.. وليس ابنه). كان مُؤلِّف الرواية (هانز فالادا) يعيش حياة صعبة، كاد أن يُقضَى عليه في ملاجئ النازية، كان ضد النازية، والحزب الاشتراكي الوطني من الأساس.. دخل إلى (مصحة مجانين نازية، وفيها ألَّف كِتَابين سرديين عن الحياة تحت النازية، لا يعلم النقَّاد كيف لم تُؤدِ لإعدامه). بعد الحرب ساءت حالته وأدمن الشرب.. فسلَّمه صديقه الشاعر جونس بيشر عدداً من وثائق التحقيق في القصة الحقيقية، وأغراه بكِتَابة الرواية.. وهذا ما كان.. فقد اعتمد عليها فالادا في كِتابة الرواية الشهيرة.. سلَّمها للمطبعة، لكنها رأت النور عام 1947م.. بعد انطفاء نور عينيه.. حيث مات قبل صدورها.

وقد ظهرت الرواية على شكل فيلم سينمائي عام 2016، للمخرج فنسنت بيريز، وبطولة: البريطانية إيمّا تومبسون، في (دور الزوجة والأم المكلومة)، والممثل الإيرلندي برندن قليسون (في دور الزوج والأب).

من اللافت أن الأب اختار الورقة والقلم والكتابة، ليبدأ رحلة الرفض.. رفض التسليم أن ابنه قد باع عمره لقضية خاسرة؛ وهذا فعل ثقافي مركزي.. وخطير: يعتمد على الكِتابة.. التي تستحضر بالضرورة فِعل القراءة.. وتستحث تالياً عملية التفكير.. وهي بلاشك خطوات منهجية نحو ما نُسمِّيه (التغيير).

يتميز إخراج الفيلم بالهدوء.. ففي كل تفاصيل الأحداث؛ هناك هدوء وسكينة وثقة؛ أن القيمة ستنتصر في النهاية، وأن التأثير الثقافي يكون في الجذور، ويتمدد. هذه مسيرة التغيير.. والفعل الثقافي هو فعل في عصب التغيير.. مات الابن من أجل النازية.. ومات الأب من أجل ابنه.. بعدما كفر بالنازية. اختار الأب الكتابة.. القراءة.. التفكير.. ليعلن تمرده (الناعم) على الفاشية العسكرية والثقافية، لكن النازية ماتت بعد ذلك بقليل.. قُضي عليها.. وعلى قيمها الظلامية الجائرة. ماتت موتاً حقيقياً.. بعدما كانت قبل ذلك تموت خوفاً من ورقة.. وقلم.. من رجلٍ يكتب، وامرأة تقرأ.. وجيل من الصغار.. يُفكِّرون.. والتفكير -كما تعلمون جميعاً- ألد ألد.. أعداء الظلام.. وأكثرهم ألقاً.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store