ما يدور اليوم في أمريكا، ويُؤثِّر فعلاً على بقية العالم، هو تمرُّد أعلنه فريق من الأمريكيين، يضم مجموعات متفرقة ممَّن يُطلق عليهم «أهل اليمين»، دخلت مع بعضها البعض في تحالف ضرورة ضد الدولة القائمة بمختلف أجهزتها، وتستخدم كافة الوسائل التشريعية القائمة وقوة الرئاسة التي يُمكنِها أن تتجاوز التشريعات والأنظمة والأعراف. فعدد لا يُستهان به من الأمريكيين العاديين والمُفكِّرين والباحثين والقيادات السياسية يرون أن النظام العالمي الذي أنشأته أمريكا وحلفاؤها بعد الحرب العالمية الثانية أفاد العالم كله، إلا أنهم يرون أيضاً أن الفوائد الاقتصادية والسياسية لهذا النظام أهملت عدداً كبيراً من الأمريكيين، وأن العالم استفاد من هـذا (النظام العالمي الليبرالي) على حساب المواطن الأمريكي. وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير هي صعود باراك أوباما سدّة الرئاسة لثماني سنوات استهدف الليبراليون عبر دعمهم القوي له خلالها أن يُبيِّنوا للمتذمرين من الأمريكيين أن النظام القائم يُفيد الجميع، فإذا بإدارة أوباما تُطبِّق سياسات أدت الى زيادة تقسيم المجتمع الأمريكي، وألهبت مشاعر التمرُّد فيه.
المتمردون الذين نصَّبوا دونالد ترمب في الواجهة، رفضوا استخدام أدوات الحكم القائمة ضمن النظام العالمي الليبرالي، واستهدفوا الدولة الأمريكية العميقة، وبدأ ترمب رئاسته بمهاجمة كل أدوات هذه الدولة بما فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) والنظام القضائي، وأجهزة الإعلام. ولم يُركِّز في هجومه على الداخل الأمريكي فقط، بل سارع للهجوم على حلفاء أمريكا الذين صنعوا النظام العالمي القائم معها. وقد أدَّى هذا الموقف من دونالد ترمب إلى حملةٍ عنيفة عليه من الدولة الأمريكية العميقة، ورفيقاتها الأوربية، وأجهزة الإعلام في أمريكا وأوربا، وإلى انقسام أشد حدّة بين المواطنين الأمريكيين الذين أصبحت مواقفهم أشد عدائية ضد مَن يُخالفهم الرأي عمَّا كانوا عليه في السابق، وقد حقَّق المتمردون، عبر ترمب، انتصارات عدة، منها تغيير عشرات القُضاة الفيدراليين، ووضع قضاة محلهم يميلون إلى أفكارهم، بما في ذلك في المحكمة العليا (أعلى سلطة قضائية في البلاد)، وعدَّلوا عدّة قوانين، وأعلنوا حرباً تجارية على عدّة بلدان، ويظهر أنهم نجحوا أو في طريقهم للنجاح في أكثر من جبهةٍ منها.. ودفعوا الحلفاء، خاصة في أوربا، إلى إعادة التفكير في دورهم العسكري ضمن تحالفهم مع أمريكا.
بالمقابل، اشتدت حرب الدولة العميقة والمؤسسات الإعلامية ضد رمز المتمردين في البيت الأبيض، الرئيس دونالد ترمب، دفاعاً عن النظام الذي أقاموه منذ سبعين سنة تقريباً. ودخلوا في نفس الوقت في حوار فيما بينهم حول المستقبل بدون الإصرار على كل مميزات النظام العالمي الذي يُدافعون عنه، وأخذوا يبحثون عن حلول وسط فيما بينهم ومَن تمرَّد على نظامهم. وهي عملية ليست بالسهلة ولا السريعة. ومِن المتوقع أن تتواصل، بينما يحصل دونالد ترمب على تجديد لرئاسته لفترة أربع سنوات قادمة، ما لم يتمكَّن خصومه من الإطاحة به بضربةٍ قاضية، قد تُبعده عن خوض الرئاسة لفترةٍ أخرى، ولكنها لن تضمن عودة الأمور إلى سابق عهدها (الليبرالي)، وتواصل إدخال أمريكا في متاهة لن يخرجها منها سوى قيادة سياسية رشيدة، لم تظهر معالمها بعد؛ لدى أي من الحزبين الحاكمين.
وتنطلق الصين خلال كل هذا في بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية، ممَّا يُهدِّد أمريكا بفريقيها الليبرالي والمتمرِّد؛ بفقدان مركزها القيادي الدولي.