أنت مثقف، وهذا يفرض بالضرورة شيئين: الحرية والمسؤولية. تريد لأرضك وشعبك وكل شعوب الدنيا الخير، وعالماً بحروبٍ أقل. تدافع أحياناً عن أحقية وطنك في الحياة الجميلة، والتطور في سياقِ مكاسب المجتمع الإنساني. بمعنى أبسط، أنت لست عدو الشعب، بل جزءاً منه. تقضي عمراً، تسافر وأنت تُدافع عن الحق في الحرية والتطوُّر والتمايز. لا شيء ينقص بلدك سوى القبول بالخيارات الديمقراطية وتقاسم السعادة بشكلٍ عادل. وتنتبه فجأة، عندما تعبر المطارات الكبيرة، إلى الناس الذين يحبّونك. يسعدك ذلك لأنك تعتقد أن هؤلاء الناس البسطاء هم أيضاً من مبررات وجودك في هذه الدنيا. لهم الحق فيما تدافع عنه. تعتقد جازماً أنه لا سُلطان فوق الحرية والحق في الحياة. أنتَ مثقف وعليك أن تستمع حتى لقطرات الندى التي لا تُحدث صوتاً لكنها حاضرة. فجأة يهزك شيء لم تتوقَّعه. تُستَدْعَى من طرف جهة تبدو أمنية، مكلفة بالسهر على الوطن. ترى كل الاحترام في عيني الشاب الذي رافقك نحو قاعة الانتظار. تجلس بصمتٍ كما المكان. فجأة يظهر رجل بشوش. تقوم. يُصافحك وفي عينيه محبة. بعد التبريكات على إصداراتك الجديدة، والنجاحات الثقافية، تبدأ الأمور الجدية في الظهور. تجيب بلباقةٍ على محبته. ولكنك تعرف سلفاً أنه ليس هذا هو سبب الدعوة الكريمة. وفجأة مثل الأفلام البوليسية، يعود كولمبو على أعقابه، قبل الخروج النهائي، ليقول الأهم في دقيقة أو أقل. يُنبّهك محاورك إلى انزلاقات لسانية قد تسيء لك ولبلدك. أنت أكيد لم تقصدها؟، يؤكد الضابط الأمني. تتساءل كيف؟ متى؟. يُذكِّرك بالحادثة التي تكون حرية الكلام المشبع بها، قد أنستك إياها. تتذكَّر. تستحضر الحادثة. لا تراها مهمة بكل ذلك القدر. لأن هناك ما هو أجدر، وحدة البلد الذي ناضلت من أجله لا يُمكن أن تقبل بانفجاره وتحلله. تُذكِّر محاورك: نعم البلاد ستتحلل إن ظلت في هذا الطريق. تقول هذا لأنك مواطن صالح، تفعل ما فعله والدك الذي ترك حياته في دروب الآلام والخوف. ترى في ماذا كان يُفكِّر والدك وهو يُواجه الحديد الحارق بصدرٍ مفتوح على أمل لا يموت؟، كانت آلة الاستعمار بشعة. ترى هل كان يرى وهو يغمض عينيه للمرة الأخيرة، الإخوة الأعداء وهم يتقاسمون مائدة الوطن؟، وما معنى الوطن عندما يعجز هذا الأخير في أن يمنحك قليلاً من الأمان والكثير من الأحلام؟، لا وطن في زماننا بلا دولة تصون حقك في طريقة حبك لأرضك. تنتبه لمحاورك. يُذكِّرك: المشكلة يا أستاذنا، ليست في كلامك، ولكن فيمن يستثمره بشكلٍ يؤذي بلادك. في التأويل. ومن يملك قدرة ضبط التأويل ومراقبته؟، التأويل كلام الآخر وليس كلامك. يمكن أن يُجابَه بتفسيرٍ أدق. الذي ينساه الرجل المهذب هو أنك مواطن يُحب أرضه وشعبه، ويتمنى أن يعرف تاريخه من شهادات أحيائه والذين ماتوا. يرفض الذاكرة الخاوية أو المحشوة بالأكاذيب. تُذكِّره بأن الخلاف بينك وبين الآخرين؛ هو أنك اخترت أن تكون مواطناً حراً، يجيب عن الأسئلة أيضاً بما يؤمن به من حرية.
إحساس عميق ينتابك داخلياً. يكاد يُحوِّلك إلى حشرة. ينتابك فجأة كافكا في عزلته الأبدية التي قتلته في وقتٍ مبكر. ترى غريرغوري سامسا وقد تحوَّل إلى حشرة، يبحث عن مخبأ له، وراء الباب. تتساءل: لماذا لا يحفظون إلا ما يريدون؟ ، تتذكَّر فجأة أن لا أحد تحدَّث معك يوم دافعتَ عن وطنك، حينما توجَّهَت ضده سكاكين الضغينة. وطن الشهداء حوَّلته الوسائل الإعلامية، إلى عش القراصنة والقتلة، كما ظن سيرفانتس قبل أن يكتشف أرضاً أخرى، وشعباً آخر، الأمية فيه تكاد تكون قليلة.
تسترجع يوماً ترك الكثيرون الأرض، بينما وقفتَ وحيداً تقرأ كتابك على الجميع. تبتسم زوجتك التي تنتظرك في مكانٍ ليس بعيداً. لا قوة تمنعك من تذكُّر جورج أوريل 1984 في سكينة: هل هو البيغ بروزر (الأخ الأكبر)، يستيقظ من سباتٍ أكثر من نصف قرن محمَّلاً بالحقد ضد كل شيء يدب على الأرض؟، تنتهي الضيافة التي لم يكن فيها ما يؤذي. لكنك وأنت عند الباب تشعر بغبن. تلتفت نحو محاورك وتتلفَّظ بالكلمات القليلة الهاربة: ومع ذلك فهي تدور يا سيدي. لا تنتظر الجواب. تواصل السير في البهو الطويل الذي تحوَّل فجأة إلى نفقٍ بلا نهاية. ترى آرثر كوستلر وبطله روباشوف وهو يُفرَغ من داخله حتى يصبح قوقعة فارغة، ملجأ للأصداء والأصوات المحيطة. تشعر في داخلك كم أنت هش. كم أن الضيافة العربية بكرمها المعتاد، تُذكِّرك بأنك لا شيء. مواطن أقل من الصفر. تلتقي بزوجتك، تشد على يدك. تقرأ الحيرة في عينيها. تسترجع كلماتها: ألم أقل لك حبيبي إنه يجب عليك أن تحذر من حرقة حبّك. تمضيان نحو سبيل غير مرئي، ربما كان درب الشمس أو مدخل بيت الظلام. تحاول أن تجعل مما حدث لا حدث لكي تستمر في العيش، لكن الضيافة العربية تتبعك بلغتها وعطرها وكلامها وروائحها. لا تتذكَّر شيئاً بعدها سوى أنك أغمضت عينيك فقط كي لا تفتك بك الخيبة.