فقدت الثقافة العربية واحداً من أعمدتها الكبار في الأسبوع الماضي: الأستاذ الدكتور بكري شيخ أمين، أستاذ الأجيال، والمفكر والأديب والناقد والفيلسوف العربي الكبير، الذي تزخر المكتبة الأدبية العربية بمؤلفاته، وينتشر تلاميذه في أنحاء العالم العربي وبعض الدول الإسلامية غير العربية، فقد طوَّف رحمه الله في عدد من البلدان العربية والإسلامية معلماً وموجِّهاً وباحثاً ومحققاً. وقد حظيتْ جامعتنا الحبيبة: جامعة الملك عبدالعزيز بجدة بالإفادة من علمه الغزير حين عمل في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية لسنوات طويلة خلال فترة الثمانينيات إلى مطلع التسعينيات الميلادية، وتتلمذ على يديه مئات طلاب القسم والجامعة عموماً، وبعضهم في الوقت الحاضر أصبحوا أساتذة في القسم والجامعة وهم ملء السمع والبصر. وقد تشرفتُ كما تشرَّف كثير ممن جايلوني من أساتذة القسم بزمالته على مدى عقد من الزمان من أمثال: أ.د.عاصم حمدان علي، وأ.د.عبدالمحسن القحطاني، وأ.د.عبدالله المعطاني، ود.جميل محمود مغربي وآخرين. وكان رحمه الله صديقاً للجميع طوال فترة عمله في الجامعة حتى عودته إلى وطنه سورية الشقيقة وبلدته الطيبة حلب الشهباء التي مكث فيها واضطر للإقامة في غازي عنتاب في تركيا خلال الحرب السورية المؤسفة، وعاد بعد أن هدأت الأحوال، ليمكث في بيته في حلب حتى وافته المنيَّة، رحمه الله، وخلال وجوده في سورية وتركيا ورغم قسوة الأحوال، ما كان ينقطع عن بلده الثاني المملكة العربية السعودية، وكانت لديه إقامة سارية المفعول ويزور أحبابه كل ستة أشهر، ويأتي رغم كبر سنِّه ليبحث عنا ويخصني ويخص أخي أ.د.عاصم حمدان بالسؤال لأننا كنا أقرب أصدقائه إليه، إضافة إلى العالم الجليل والأستاذ القدير الدكتور عبدالله الطرازي أستاذ اللغات الشرقية بالقسم سابقاً، وكان وصوله دائماً مناسبة طيبة للقائنا جميعاً على شرفه في أحد بيوتنا، ولم ينقطع عن زيارة المملكة إلَّا في السنوات القليلة الماضية بعد أن ساءت حالته الصحية، ولم يعد سنُّه يسمح له بالسفر.
وُلد رحمه الله في حلب في 3/12/1930م، وحصل على الثانوية الشرعية عام 1950، والإجازة في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق عام 1954م، ودكتوراه الدولة من فرنسا عام 1970م. ودرَّس في جامعات عربية عدة منها جامعة القرويين بفاس، وكلية الآداب بجامعة حلب، وكلية الآداب بالجامعة اللبنانية ببيروت، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، كما ذكرنا. درَّس في تلك الجامعات وغيرها علوماً شتى منها الحضارة الإسلامية وتاريخ الأدب العربي وعلوم اللغة العربية من نحو وصرف وعروض وبلاغة، وأصول التحقيق العلمي للمخطوطات. وقد أثرى المكتبة العربية بمؤلفات كما أسلفت وأهم كتبه على الإطلاق كتاب (الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية) الذي تجاوزت طبعاته خمس عشرة طبعة، وأقتني نسخة من طبعته الأولى التي صدرت عن دار صادر ببيروت عام 1972م. ويعتبر الكتاب العلمي الأول الذي أرَّخ للأدب السعودي بأسس نقدية راسخة دون شك. ومن مؤلفاته الأخرى: البلاغة العربية في ثوبها الجديد، والتعبير الفني في القرآن الكريم، ومطالعات في الشعر المملوكي والعثماني الذي زادت طبعاته عن خمس عشرة طبعة، وأدب الحديث النبوي الذي طُبع سبع مرات، وقراءات نقدية في كتب سعودية إضافة إلى عدد كبير من الكتب المحقَّقة. ونال جوائز وشهادات تقدير بالعشرات.
رحم الله الزميل القديم والأستاذ الجليل: العلامة بكري شيخ أمين، وجعل ما ترك من مؤلفات ودراسات علماً يُنتفع به، وفي موازينه إن شاء الله تعالى.