في ذاكرتنا الثقافية العربية تاريخ كبير نجهله للأسف، ولا نعيره أي انتباه، على الرغم من أنه جزء من الذاكرة الإنسانية الحية.. وننسى أنه خارج الثقافة ليس لنا ما نقدمه للآخر، سوى مشكلات لا تنتهي وحروب طاحنة لا تنتهي.. ذلك الآخر الفاعل ثقافيًا الذي عرف كيف يجعل من ثقافتنا جزءًا من انشغاله.. لم يكن المؤلف الموسيقي الكبير، كامي سان سونس Camille Saint Saëns يعرف أنه سيصاب بالجزائر عميقًا وهو ينجز في سنة 1880 سيمفونية متتالية الجزائر التي خلدته Suite algérienne لقد سكنه سحر الشرق في عمقه الأندلسي لدرجة أنه غرق كليًا في الشرق الموسيقي الساحر، ليس من باب استشراقي شكلي، ولكنه من باب العارف.
الكثير منا يعرفون هذا الموسيقي العالمي الشهير صاحب كرنفال الحيوانات، والأميرة الصفراء، والليلة الفارسية وغيرها، الذي أعاد للموسيقى الشرقية العظيمة، كل ألقها الكلاسيكي وجمالها الإنساني، لكن القليل منا يعرف علاقته بالموسيقى الأندلسية التي شكلت محطة مهمة في حياته، بل ملهمة لأجمل سيمفونياته أثناء إقامته زمنًا طويلاً بالجزائر.. كل شيء حدث بالصدفة.. كان في الجزائر العاصمة التي سكنها بشكل متقطع قبل أن يقيم فيها ويموت فيها أيضًا، عندما سمع أولى النغمات الساحرة في حي القصبة.
في خريف سنة 1873 زار سان سونس الجزائر لأسباب صحية، فوجد نفسه في صلب عالم شرقي كان يجهله.. استقر في البداية في حي سانت أوجين، على حافة رأس البحر، في فيلا موريسكية القليل منا يعرف مكانها، على الرغم من أنها ما تزال قائمة حتى اليوم بكل بهائها.. يحدث أن ننسى أن شعبًا يجهل ثقافته، محكوم عليه بالاندثار والزوال.. كان سان سونس يجلس اللحظات الطويلة في الحديقة المطلة على البحر، مستمتعاً بنافورة الماء.. كتب ذات مرة لأحد أصدقائه: لا أحد في هذا المكان، لا صوت يعتدي على هذا الصمت الإلهي.. فجأة سمع نغمًا جميلاً يأتيه من أحد المقاهي الموريسكية، إيقاعات على مقام توشية زيدان الأندلسية، فامتلأ به، وشعر كأنه يعرفه من زمان.. من يومها تغيرت علاقته بالمكان.. مكاننا الأصيل هو الذي يشعرنا بوجودنا الاستثنائي.. أصبحت علاقته بالجزائر، موسيقية وليست استشفائية فقط.. لا يمكن فهم العنصر الشرقي الداخل في تأليفاته دون العودة إلى الجذر الذي شكل جانبه الشرقي.. هناك في هذا الصمت الجميل والراحة التامة أنجز أوبرا الكبيرة، منها: موسيقى آسكانيو التي أنشأها بناء على كراسة أوبرا كان صديقه لويس غاليت قد منحها له قبل سفره إلى الجزائر.. يعود سان سونس إلى فرنسا مع احتفالات رأس السنة في 1888، لكنه استثقل الحياة هناك، فيعود بعد أسبوعين لإتمام الأوبرا الجديدة، وينزل في فيلا إيسلي (البريد المركزي)، ليقضي جل وقته في القصبة في الاستماع إلى الموسيقى الأندلسية التي سحرته وشكلت الجانب الخفي من أوبرا آسكانيو.. وفاة أمه غيَّرت الكثير في حياته، فقد تركت فيه فجوة كبيرة انعكست ملامحها على نتاجه الموسيقي اللاحق.. عندما عاد إلى الجزائر بعد حضور مراسم دفن أمه، أنهى سيمفونية الليلة الفارسية La Nuit Persanne التي قدمت في شاتلي في باريس في شتاء سنة 1892 ونالت شهرة عالمية واسعة.. كان الأثر الشرقي واضحًا فيها..
على غير عادة سان سونس، عندما استعصت عليه الموسيقى، جرب الفن التشكيلي، فأنجز لوحة سماها: القمر على بحيرة العاصمة من أعالي جرف سان رفاييل (حي الأبيار اليوم).. اللوحة موجودة بمتحف الفنون الجميلة، بالجزائر العاصمة.. ثم يرحل إلى بسكرة، نحو الجنوب الصحراوي، بحثًا عن السكينة والصمت، وهناك ينجز سيمفونية السوناتا الثانية على الفيولونسيل والبيانو، ومقطوعة تحت النخيل، ومسيرة طلبة الجزائر.. يسافر مرة أخرى إلى باريس لحضور حفلاته الموسيقية التي كانت تقدم هناك، لكنه سرعان ما يعود في 1921 ويقيم في نزل الواحة، على الواجهة البحرية للجزائر العاصمة، وهناك يؤلف للراقصة الروسية نابييركوفسكا، التي كانت في الجزائر لتصوير فيلم آتلانتيد Atlantide، رومانس على الكمنجة والبيانو.. ثم فالس متبخترة.. بعد الانتهاء منها، في ليلة 16 ديسمبر 1921، سهر طويلاً مع أصدقائه على لعبة الدومينو، شعر فجأة بتعب خفيف يشبه الزكام، لم يستطع الطبيب فعل أي شيء حياله.. توفى في نفس النزل العاصمي، وفي نفس الليلة الباردة.