إلى وقتٍ قريب، اعتبرت السينما، على الرغم من قيمتها، عدواً كبيراً للأدب، للسرديات تحديداً، بحجة أنها لا تحترم قداسة النص، وتُغيِّر في جوهر الأشياء، وغير منشغلة بأساسيات الاقتباس وشروطه. حادثة الأديب والموسيقي الفرنسي، بوريس فيان، صاحب رواية» سأذهب لأبصق على قبوركم، التي ما تزال ماثلة في الأذهان إلى اليوم، على الرغم من مرور وقت طويل على وفاته. فقد دعا بوريس لرؤية الفيلم المقتبس من روايته تلك، في العرض الشرفي. عندما انتهى العرض صرخ في القاعة بشكلٍ هستيري: (ماذا فعلتم بي؟.. هذا ليس أنا). فرد عليه المخرج: نعم يا صديقي بوريس، هذا ليس أنت، ولكنه نحن.
توفي الروائي يومها في القاعة بحالة انسداد رئوي، وظل الفيلم مُعلَّقاً. الفكرة هي أن المنتَج الأدبي والسينما، لهما مشترك كبير في البنيات الشخصية للعمل، والمكانية والتخييل عموماً، لكن لهما اختلافات جوهرية تتعلق بالجندر، أو النوع، وزاوية النظر التي تنبني عليها كل التغيُّرات الافتراضية. الصورة ليست الكلمة والعكس صحيح. لكن قوة السينما هي أنها تجعل كل شيء قريباً وممكناً. بل ترتفع بالنص الأدبي نحو جماهيرية غير مسبوقة. هي جماهيرية الصورة. لو تأمَّلنا في السنوات الأخيرة كيف تمكَّنت السينما أن تقترح إعادة قراءة للكثير من النصوص العالمية؛ ستكتشف كم أن السينما أعطت دفعاً قوياً للأدب العالمي الكلاسيكي، الروائي على وجه الخصوص. للأسف عربياً، لا تُشكِّل السينما رهاناً اقتصادياً وثقافياً مهماً، وبالتالي يظل حضورها خافتاً. يتم الاستثمار في المسلسلات أكثر من الأفلام الروائية. لهذا، لم تُشكِّل مثلاً أعمال نجيب محفوظ الكبيرة، نموذجاً عالمياً كبيراً، لأنها لم تجد مخرجاً كبيراً يدفع بها نحو عالمية أكثر، باستثناء ما قام به صلاح أبوسيف. على العكس من رواية: عمارة يعقوبيان للأسواني مثلاً، التي وجدت مَن يدفع بها إلى الأمام سينمائياً، ويضعها في مدارات الاهتمام.
السينما العربية لم تُفلح في هذا الجهد الفني العظيم، لأنها ارتبطت بالتجارة المباشرة والمسطحة، فأفسدت أغلبية الأعمال الروائية لنجيب محفوظ، يوسف السباعي، إحسان عبدالقدوس، ولم تنجح في محاولاتها إلا نادراً. مقابل هذا الإخفاق، لنا في اسم الوردة لأمبرتو إيكو (إخراج جون جاك آنو، وبطولة شين كونري) مثال نموذجي حي لنجاح الاقتباس. يُدرك جميع المختصين أن النجاح غير مرتبط بالضرورة بالوفاء الحرفي للرواية، ولكن بالذهاب نحو جوهرها سينمائياً، أي بالأدوات والتقنيات التي تفرضها السينما. من هنا تبدو النصوص العظيمة والناجحة، هي تلك التي استطاعت أن تخترق الزمان، وتتجاوز حدود العصر الذي أُنتِجت فيه، لتتحول إلى أيقونة لا زمنية.
الانتقال من الكتابة إلى السينما لا يلغي قيمتها، ولكنه يُرسِّخها في الحاضر الذي تصبح جزءاً حياً منه. تتحوَّل من نص ستاتيك، مجرَّد تاريخ ينام في رفوف المكتبات، إلى تعبيرٍ متعال عن زمنٍ وعصرٍ يُعاش على تماسٍ مستديم، مع حاضر ينشأ أمام أعيننا، ويتفكَّك في مشهدية درامية بشكلٍ متواتر، وماضٍ لم يُغيِّر إلا قليلاً من قيمه، ومعتقداته، وحتى ثقافاته، لأنها لا تتبدل بسرعة، وإن تخطَّاها الأدب بأدواته الاستشرافية.
السينما تزرع عنصرَي الاستمرار والديمومة في النصوص الروائية؛ التي اشتغلت على موضوعات إنسانية واسعة، مستمرة مع الإنسان منذ بدء الخليقة، كالحب، والكراهية، والنبل، والخوف، والخيبة، والبطولة، والخيانة، والحرب والسلام وغيرها.. قيم صاحبت وتصاحب الإنسان وتُعيده إلى شرطيته الوجودية الصعبة التي عليه مواجهتها بكل ما يملك من قوة، ليستمر وجوده، ويُبرِّر استمراره بارتباكه الأبدي، ومستقبله الغامض. شهدت السنوات الأخيرة إنتاج أفلام عالمية كثيرة كان مصدرها الأول روايات أو مسرحيات عالمية، كمسرحية فاوست لغوته، وروميو وجولييت لشكسبير، وروايات البؤساء والرجل الذي يضحك لفكتور هوجو، آنا كارنين للكاتب الروسي تولستوي، وحجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، وزبد الأيام، لبوريس فيون، الاعتداء لياسمينة خضراء، الخبز الحافي لمحمد شكري، ثلاثية ملينيوم لستيغ لارسن، وثلاثية التحوُّلات الخمسون لغري لمؤلفها أ. ل. جيمس، وقبلها شيفرة دافنشي للكاتب الأمريكي دان براون ونصوصه اللاحقة مثل: ملائكة وشياطين وإنفيرنو (جهنم) وغيرها. اكتشفت الأجيال الرقمية العالم المدفون في القبور والمكتبات لروائيين غادروا هذه الحياة منذ عشرات السنين. كيفما كانت النقاشات بتجاذباتها ونفورها، تظل السينما تأخذ جزءاً من غناها من النصوص الدرامية والقصصية والروائية، وتظل الرواية تدين بالكثير لهذا الفن العظيم، ربما بحياتها واستمرارها في الوجدان الإنساني، كما لو أنها كتبت الآن.