الصراع بين المثالية والواقعية لا يفتر، فهو بين شدّ وجذب وحراك وركود، وقوّة وحق، وتاريخٍ ومستقبل، وهو مُعضلة اجتماعية لها ارتباطٌ عميق بالمُثل الدينية الأخلاقية، ويمثّل تحدياً يختبر الإنسان بشكلٍ يكاد يكون يومياً في خضمّ انهماكه في ممارساته الاجتماعية.
وعلى الرغم من سموّ الأفكار المثالية وصعوبة تنفيذ كثير منها على أرض الواقع، إلا أن مهمّتها الأساسية لفتُ النظر إلى المبادئ الرفيعة والمثل العُليا والحثّ على مُحاولة تطبيقها، وبالتالي تغيير مسار الواقعية الواطئة،
لكن في صراعها الأزلي عبر التاريخ الإنساني، تنهزم المثالية كثيراً في مواجهة الواقعية، فالمبادئ المثالية تستنزف ثمناً باهظاً جداً، لا يقدر الواقع الإنساني على تحمّله في غالب الأحيان، وفي العادة، تسير الواقعية في طريقها المحتوم، غير آبهة بنداءات المثالية المُكلّفة.
ونتيجة ارتفاع سقف المثالية التي تنادي بها المبادئ الدينية الراقية في مواجهة التيار المادي العنيف، يقع كثيرٌ من الأفراد في فخّ صراعٍ نفسي ونزاعٍ فكري، هو نتيجة الصراع بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، فالمُثل العليا تُطالبهم بمبادئ يقرأون عنها في أمّهات الكُتب وسِيـَر الأوّلين وأخلاق الصالحين، ويستمعون إليها في الخُطب والمواعظ المُكرّرة ويدرسونها في المناهج الدراسية، لكنّهم لا يُشاهدونها بالضرورة في قُدوات تـُمارسها بحقيقتها، كما لا يـُمكنهم تطبيقَها كما هي في واقعهم الاجتماعي وعالمهم الحسّي الذي يسير بمبادئ ومصالح مادية وأخلاق تجارية، ونُظمٍ أكثر تماشياً مع مُتطلّبات حياتهم اليومية، لذا يعيش معظم الناس في المجتمعات التي يشتدّ فيها وازع الوعظ والإرشاد، بشخصية مُزدوجة مُتنافرة بصورة لا شعورية، تُصارع التوفيق بيـن عدد من المتناقضات التي تُمليها عليهم المثالية ونقيضتها الواقعية، فكثيرون يحبون الخيـر بأفكارهم، ويكرهونه في سِـَرهم العملية.
ومع ارتفاع مستوى المثالية وصعوبة تحقيقها، إلا أنها تظلّ أنموذجاً فكرياً راقياً، وضرورة جمالية حضارية، يعتنقها المُختارون من الأنبياء والرُّسل، وغيرهم من المفكّرين وأصحاب المفاهيم المثالية، للسمو بروح الإنسان والارتقاء بأخلاقه وسلوكه وإحياء وازع الخير في نفسه، والتحفيز على مُغالبة الواقع والتشجيع على تغييره للأفضل، والتقدّم في سبيل المبادئ الرفيعة، فهي من دفعِ الله الناسَ بعضهم ببعض، للاقتراب -ولو قليلاً- من تشكيل المجتمعات الفاضلة روحياً وأخلاقياً واجتماعياً.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
