هل كان نجيب محفوظ نموذجًا استثنائيًا في ترسيخ فن الرواية العربية وتوطينها؟. قد لا يكون لهذا السؤال معنى كبير اليوم، في ظل المآلات التي انتهت إليها الرواية العربية، إذ أصبح من الصعب إعادة النظر فيما حقق حول مسارات المائة سنة الأخيرة التي شهدت فيها الرواية العربية تطورات عظيمة، قفزت بها إلى أعلى المراتب كجنس أدبي مميز جاء بأجيال كثيرة تناوبت على هذا الفن وجددته بقوة من خلال آلياته الغربية التي انغرست مع هيكل في روايته زينب، وترسخت أكثر مع نجيب محفوظ.. فلا نقاش في كون نجيب محفوظ يشكل لوحده ذاكرة روائية بمجمل نتاجه.. فقد رسخ النموذج الروائي المثاقفاتي acculturation المهيمن.. صحيح أن نجيب محفوظ انتقل بالفعل الروائي في أواخر عمره من المثاقفة إلى التثاقف l›interculturalité مع روايات مثل ليالي ألف ليلة، وملحمة الحرافيش، لكن نصوصه الترسيخية الأساسية ظلت في أفق النص الزولي (إميل زولا) الذي تأثر به بعمق.. ومع ذلك، فقد أصبح الجنس الروائي العربي مع نجيب محفوظ حقيقة موضوعية.. وكل الجيل الذي سار في أثره، وفي أثر القطيعات السردية التي أحدثها في سرده، ظل وفيًا لمنطلقات جوهر محفوظ من أمثال حنا مينة، الطيب صالح، الطاهر طار، عبدالحميد بن هدوقة، صنع الله إبراهيم، خناثة بنونة، عبدالرحمن الربيعي، عبدالرحمن منيف، نبيل سليمان، وأسماء أخرى لم تخرج عن المدارات التي بنى عليها نجيب محفوظ مشروعه الكبير.
يتفرد في هذا السياق مجموعة أدباء وهم قلة، طرحوا مشكلة النموذج بحثًا عن خروج جزئي من النمطية الأوروبية المترسخة.. أولهم محمود المسعدي الذي حاول في روايته حدث أبو هريرة (طبع في تونس الدار التونسية للنشر 1973) أن يستعيد التقاليد السردية العربية، ويخرج بطله من عالم الثبات والتقاليد المغلقة في مكة، نحو عالم الحرية والحياة، بالخصوص بعد التقائه بريحانة التي غيرت فيه كل شيء، بما في ذلك علاقته بجسده الذي ظل ينتظر الموت لينعم به في الآخرة.. حاول المسعدي استرجاع التقاليد السردية العربية القديمة، لكن المثاقفة كانت أقوى من سلطان التثاقف، فلم يكتب لتجربته الاستمرار والنجاح.. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تجربة جمال الغيطاني في الزيني بركات التي عاد فيها بدوره إلى نص مرجعي عربي مقتفيًا طرائقه السردية، تاريخ ابن إياس، بدائع الزهور، فجسد لنا صورة شبيهة بصور اليوم لكبير البصاصين الشهاب الأعظم زكريا بن راضي ووالي الحسبة الزيني بركات.. لكن هنا أيضًا لم تتطور التجربة، على الرغم من تراكمها الجزئي، لتصبح حقيقة مرئية ووازنة في المشهد الثقافي العربي، على الرغم من نية استعادة السرديات العربية المنسية، وظلت محصورة في دائرة ضيقة، بل أن الكاتب نفسه تخلى عنها لصالح النموذج المحفوظي العام.
وقد يقول قائل الرواية الأمريكية الجنوبية (اللاتينية) مرت بنفس المسالك في تأثرها بالرواية الأوروبية.. صحيح، لكن الفرق الوحيد والعميق، هو أن رواية أمريكا الجنوبية بنت مشروعها بالعودة إلى ذاكرتها الجمعية التي محاها الاستعمار، فقد تم استرجاعها من غياهب الماضي المقتول الذي بقي محفوظًا في الذاكرة الجمعية.. تم تجميع الحكايات الهندية القديمة ووضعها في متناول القارئ.. ومن لا عقلانية هذا التراث، أي من سحره، بنت الرواية تاريخها الذي شيده أستورياس قبل ماركيز بكثير.
الأمريكيون الجنوبيون قرأوا التاريخ الغربي من موقع الفعل التثاقفي وليس المثاقفاتي، حتى ولو كان ذلك داخل اغتراب لغوي قسري بعد اندثار اللغات الهندية التي عوضتها الإسبانية والبرتغالية، وفق المعطيات الثقافية المحلية ضمن منظور كتابي كلي اسمه الواقعية السحرية، أي الواقعية المحلية التي تقع خارج نظام العقلنة الأوروبية.