عبد العزيز بوتفليقة آخر قيادات جبهة التحرير الجزائرية الذين تولوا رئاسة الجزائر.. وله تاريخ سياسي حافل إذ التحق بجيش جبهة التحرير الوطني، وعمره تسعة عشر عاماً، وشارك في حرب التحرير الجزائرية، وكان من المقربين للقائد العسكري هواري بومدين، الذي تولى رئاسة الجزائر فيما بعد، وأصبح بوتفليقة بعد تحرير الجزائر وزيراً للخارجية وهو بعمر خمس وعشرين سنة، واشتهر بأنه أصغر وزير خارجية في العالم حينها. وعند وفاة بومدين عام 1978، وتولي قائد الجيش الشاذلي بن جديد الرئاسة، انسحب من المعترك السياسي الجزائري لعدة سنوات، إلا أنه عاد بعدها ليتولى رئاسة الجزائر عام 1999م، وقام بتنفيذ برنامج سياسي تصالحي مع الجماعات التي كانت تحارب النظام، وتميزت فترة حكمه بتطورات سياسية عدة داخلياً وخارجياً، أكسبته حب وإعجاب قطاع كبير من الجزائريين.
مشكلة بوتفليقة، كما هي مشكلة قيادات دول العالم الثالث الأخرى، أنه لم يعرف متى حان وقت التنحي وأن حب وإعجاب الجماهير ليس أمراً لا نهائي، وأن التجديد والإصلاح بشكل متواصل مطلوب استجابة للتطورات التي تحدث في البلاد مثل ظهور جيل جديد من الشباب بالإضافة إلى تطورات إقليمية ودولية تتطلب سياسة مرنة لمواجهتها والاستجابة لمتطلباتها. وكان يمكن لبوتفليقة التخلي عن الرئاسة حالماً أصيب بمرضه الذي أقعده، وحينها ربما كان بإمكانه المساهمة في اختيار الخليفة الذي يليه وطاقماً للحكم يستقبله الشعب بقدر أقل من النقمة والرفض، كما هو الحال عليه الآن.
الجزائر اليوم على مفترق طرق هام جداً. وأمام قادتها اختيارات متعددة، قد تؤدي للاستقرار أو الفوضى. وهناك دروس يمكن لهم أن يستفيدوا منها من تجارب الدول المجاورة لهم، خاصة العربية، وفي كل الحالات سيكون للجيش دور مهم وحاسم، لأنه يملك القوة والأجهزة القادرة على حفظ الأمن وإن كان لا يملك الوسيلة الكافية لفرض ما يريد. والتجارب متعددة، ففي تونس وفر الجيش الفرصة لقيام نظام سياسي تعددي لا يكون لأي طرف الغلبة فيه، بينما غاب الجيش في سوريا عن توفير الغطاء المطلوب لانتقال السلطة ووقف الى جانب النظام القائم وتحولت سوريا الى مستنقع دموي، أما في ليبيا فلم يكن هناك فرصة لأن يعمل الجيش شيئاً وسقط حتى قبل سقوط القذافي وتحولت ليبيا الى ساحة صراع دموي محلي وإقليمي ودولي. وفي اليمن ساعد الجيش على وضع اليمن في طريق استقرار وإحلال نظام سياسي تقبل به جميع القوى أو أغلبها، إلا أن دولة إقليمية (إيران) قررت دفع فصيل من اليمنيين (الحوثي) الى الاستيلاء على العاصمة ووفرت له المال والسلاح والخبراء لضرب الجيش والدولة والبلاد، ودخلت اليمن في الفوضى التي نشهدها. وفي مصر أتاح الجيش الفرصة للانتقال الى نظام سياسي جديد، ولكنه فوجئ ومعه كل البلاد بأن فصيلاً مـــــــن الفصائل السياسية (الإخوان المسلمون) أصروا على إبعاد الجميع والاستئثار بالسلطة وجلب قوى من خارج مصر لمساعدتهم في ذلك، وثار الشعب على هذا التصرف ووقف الجيش الى جانبه، ليعود الجيش حاكماً للبلاد كما كان منذ الخمسينيات الميلادية. ومن حسن حظ الجزائريين، إن أرادوا الاستفادة من حسن حظهم هذا، أن هذه الدول القريبة منهم مرت خلال فترة قصيرة ماضية بتجارب تغيير سياسي، كما يسعون اليه هم الآن، أدت الى نتائج متنوعة تجعل من السهل عليهم تصور كل النتائج المحتملة لما يمكن أن يقدموا عليه.